مقالات وبحوث
تدريس اللُّغة العربيَّة بين العلم والمهارة
لا يشكُّ أحدٌ أنَّ أبناءنا في المدارس والجامعات المتفوقين منهم وغير المتفوقين، ليس بمقدور أَحدِهِم أنْ يتقن اللُّغة العربيَّة قراءةً وكتابةً، فضلاً عن أنْ يتقنها محادثةً واستماعاً، وأنَّ الاهتمامَ بِمهارات اللُّغة العربيَّة يَكاد يكونُ غائبا تماما، في المدارسِ والجامعات على حدٍّ سواء، ولا وجود لها إلا على الورق في المقررات وغيرها، إضافةً إلى نُدرَةِ هذا الوجود أصلاً.
لقد انصبَّ اهتمامُ الطَّالبِ في جميع مراحله الدِّراسية على أنْ يَتعلمَ اللُّغة العربيَّة نحواً وصرفاً وإعراباً وبلاغةً، دون أنْ يُدركَ أنَّ هذهِ العلومَ ليس لها علاقة بإتقان المهارات اللغوية، ولا ألومه على ذلك، إذ إنَّه نَشأ من أوّل يوم دَخَلَ فيه المدرسةَ إلى أنْ يتخرج في الجامعة على دروس اللُّغة العربيَّة النَّحوية والصَّرفيَّة وكيفَ يُعْربُ وكيف يَشْتَقّ وما معنى المفردة التالية؟ وما هي الصورة الفنية في هذه العبارة أو ذلك التَّركيب؟ في الحقّ، إنَّ هذا هو مضمار دراسة اللُّغة العربيَّة ومهاراتها في المراحل التَّعليميّة، فزاد اهتمام الطالب بهذه القضايا، لأنَّ الاختبارات والامتحانات ركزت على هذه الأسئلة وربطت نجاحه ورسوبه بمعرفة هذه العلوم.
وبناءً على ما سلف، يتخرج الطَّالب من المؤسسة التَّعليميّة وهو فقير إلى أن يفهم المقروء والمسموع ويتقن الحديث والمكتوب، وهو يشعر في قرارة نفسه أنَّه على علمٍ كافٍ باللُّغة العربيَّة، فهو يُعرب إعرابا كاملا، ويعرف المشتقات والمصادر وصيغها وأوزانها، ويعرف التشبيه والاستعارة والكناية والمجازات بأنواعها، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، يرى نفسه أنَّه لا يستطيع أن يكتب فِقْرةً واحدةً أو يتحدث مُدّةَ خمس دقائق بِلُغةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ ومُتقنةٍ.
مِن المَعلومِ أنَّ مُؤسساتِنا التَّعليميّة ركَّزتْ منذ تأسيسها على الاهتمامِ باللُّغة العربيَّة بوصفها علماً لا مَهارةً، ظنّاً مِنها، أنَّ الطَّالب إذا اسْتطاعَ معرفةَ اللُّغة العربيَّة نَحواً وصرفاً وبلاغةً، سيتمكن من أدائِها بشكلٍ مُمْتازٍ، وأنَّ هذه المَعرفةَ ستؤهله إلى أنْ يَمتلك نَاصيةَ اللُّغة العربيَّة الفَصيحةِ بِكلّ أشْكالِها وأداءاتِها، ولا شكَّ أنَّ هذا الظنَّ أدى بالطَّالب إلى هذا العُقم في عدم مقدرته على أنْ يُعبِّرَ ويَفْهمَ ويُفكِّرَ ويَتحدَّثَ، لأنَّ ثمَّةَ فَرقاً كبيرا بينَ العِلمِ والمَهارةِ هذا مِن جِهةٍ، وأولويّة أحدهما على الآخر من جهة ثانية.
وهكذا، لا بُدَّ أنْ يكونَ الطَّالب على وعي ومعرفة في التفريق بين العلم والمهارة، وحتى يتمكن طالب اللُّغة العربيَّة ودارسها من فهمها، عليه أنْ يتقنَ مهاراتها الأربع وهي: الاستماع والمحادثة والقراءة والكتابة، ومن بعدها، يستطيع أن يفهم اللُّغة العربيَّة بوصفها علما، وهذا الفهم يأتي في مرحلة متقدمة من تدريس مهارات اللُّغة، وعادة تكون للمتخصص؛ لأنها تشترك بغيرها من العلوم في كونها علما قائما على أسس ومرجعيات ومناهج ونظريات وغير ذلك من خصائص أيّ علمٍ سواء أكانَ نظرياً أم تطبيقيّاً. وبالتالي، فإنَّ ما يجب أنْ يكونَ هو إتقان المهارات اللغوية الأربعة والتركيز عليها بعيدا عن النحو والصرف والإعراب والبلاغة…، فالمهارات اللغوية هي ركيزة أساسية لكل متعلم بغض البصر عن تخصصه وعَمَلِه، إذ هي الأداةُ التي تؤهله إلى أنْ يُعبِّرَ ويُفكِّرَ بشكلٍ سليمٍ ودقيقٍ وواضحٍ، فطالب الطّبِّ والهندسة والعلوم التطبيقية والإنسانية لا تعنيه مسائل الإعراب والصيغ الصرفية والميزان الصرفي وأنواع التشبيه والاستعارة والكناية، ولكن ما يعنيه هو إتقان المهارات اللغوية إتقانا كاملا، لأنَّها هي التي يستخدمها في حياته العلمية والعملية والفكرية، ولن يستقيم ذلك إلا بإتقان المهارات اللغوية إتقانا تاما، فلن يكون التفكير سليما ولا الفهم دقيقا ولا الحديث واضحا ولا التعبير مُعبِّرا إلا بعد أن يتقن آلة صناعة هذه العمليات والأداءات وإخراجها إلى الوجود وتطبيقها عمليا.
وعليه، لا بدَّ أنْ تَكون المهارات هي المادة الأصل لِلُّغةِ العربيَّة في مقرراتنا التَّعليميّة، وأنْ تُقدّم بطريقةٍ علميةٍ وتربويةٍ، وأنْ يُخصَّصَ منهاج دقيق يُقدِّم المادةَ وَفْق آليات التّواصل اللّغوي المعاصر، واستراتيجيات التَّدريس الحَديث، ومُعلمين أكْفاء، وأنْ تُقدَّم هذه المادة باللُّغة العربيَّة المُعاصرة الفصيحة دون صناعة أو تصرُّفٍ في لُغتها أو تراكيبها وأنْ تكون متنوعةً في مجالاتها ومعارفها وأجناسها، كأنْ تكون – مثلاً – ( حوارا، مقالا “علميا أدبيا اجتماعيا فكريا ثقافيا”، خبرا تلفازيّا، تقريرا صحفيّا..) بعيدا عن إفراد عنوان خاص للنّحو والصّرف وغير ذلك، بل يجب أنْ تُدرَّس هذه القواعد تدريساً تواصليًّا من خلال النّصوص وتطبيقاتها المَهاريّة، دون التركيز على هذه القواعد من حيث مُسوِّغاتها وجوازها ووجوبها، بل يجب التركيز على الممارسة العملية والتَّطبيقية للطَّالب لتلك اللُّغة، وأنْ يحاكي النُّصوص بطرائق منهجية وتربوية وتعليمية حديثة، وفي هذه الأثناء، يُصوَّب الطَّالب ويُخَطّأُ بطرقٍ علميّة وتربويةٍ؛ إذْ إنَّ الهدف من تدريس هذه المهارات هو ممارسةُ الطَّالب وتمرُّسه على القراءة والمحادثة…إلخ، لا أنْ يُخطِئ ويصيبَ. وذلك حتى يتسنى له التفكير بحريةٍ وطلاقةٍ دون أنْ يُقيّد بهذه القيود التي هي في غير أوانها، ولزرع الثقة بنفسه، وتحقيق ذاته، وبناء شخصيته، وكسر حواجز الخوف والتردد والخجل. ولا بد أن تكون الاختبارات التحصيليّة منصبةً على هذه التطبيقات حتى يهتمّ الطَّالبُ في حياته المعيشية في كل ما يقرأه ويسمعه ويكتبه ويتحدث فيه، كتعليمٍ ذاتيٍّ.
ومن هنا، فإنَّ الاهتمام بمهارات اللُّغة العربيَّة هو اهْتمامٌ بِفكرِ الطَّالب العربي ومشاعره أولا، وهو اهتمام ببناء شخصيته وثقته بنفسه ثانيا، ولا يكون ذلك إلا بعد أن يشعر الطَّالب بقدرته على التَّفكير والتَّعبير وأنَّه قادرٌ على أنْ يبدعَ ويطورَ ويكتشف أيضا، أضف إلى ذلك، أنَّ إتقانه للمهارات اللغوية هو إتقان بحدِّ ذَاته لِجميع مَعارفِه وعلومِه من حيث هي علمٌ ومعرفةٌ وبحثٌ، وليس من حيث هي مهنة وتجارة، وهذا للأسف، هو سبب غِياب البحث العلميّ الأصيل وإنتاج المعرفة على المستوى المحلي والعالمي، فالطَّبيب ماهرٌ في مهنته فاشل في بحثه، وقُلْ مثل ذلك في المهندس والفيزيائي والكيميائي والإداري والمدرِّس…إلخ، لأنّه ببساطة يفتقد إلى المِعول الَّذي تأسَّسَ عليه بِناؤه الذِّهني والتَّفكيريّ وبه تشكَّلَ عقله، ومن ثمَّ، فإنَّه لا يستطيع إلا بهذا المِعْول –تحديدا-أنْ يُنقِّبَ ويُفتِّشَ فِي حَفرياتِ العِلمِ ويُغيِّرَ ويُطوِّرَ عَليه ويُنْتِجَ معرفةً حقيقيةً تُغيِّرُ وجْهَها الآني والمُستقبليّ.