مقالات وبحوث
الرياضيات تعانق ساعة البرمجة
نشأت لغات البرمجة في بدايات القرن التاسع عشر عندما بدأ علماء الرياضيات الاهتمام بالاختراعات الميكانيكية التي تعمل مهام محددة بدلاً عن الإنسان، و ذلك لتوفير الوقت و الجهد. استغرقت جهود عدد من علماء الرياضيات مئة عام تقريبا للوصول إلى حواسيب رقمية إلكترونية تعمل بالبرمجة، و منذ ذلك الوقت اتخذت البرمجة مساراً علمياً هاماً في المجالات الحياتية المختلفة.
إيماناً بأهمية أن يتعلم كل طالب مهارات التعامل مع الحاسب الآلي و يكون مؤهلا للتعايش و العمل في القرن 21 وهي الرؤية التي يطمح لها وطننا الغالي للوصول إلى مجتمع معرفي متمكن من إدارة المعرفة و بناء وطن مزدهر، عملت وزارة التعليم على تنفيذ البرنامج ( ساعة البرمجة Hour of Code ) بالتعاون مع شركة مايكروسفت العربية و الذي يتزامن مع أسبوع تعلم علم الحاسب الآلي في الفترة من 3-9 / 12 / 2018م. يتسارع هذا الحدث العالمي بشكل كبير في فترة قصيرة، واحتلت المملكة المركز الأول في تفعيل ساعة البرمجة مما يدل على أن عالم البرمجة البسيطة استحوذ على اهتمام شبابنا و أطفالنا في حين يظن أغلب الطلاب و المعلمين أن البرمجة و علوم الحاسب بعيدة تماما عن الرياضيات.
إن برمجة الحاسب تعد عملية معقدة لا يتقنها إلا المحترفون و الممارسون لمفاهيم و نظريات رياضية بحتة. فإذا أراد المبرمج أن يحرك كائنا على شاشة الحاسب في اتجاه محدد فإنه سيستخدم أوامر معينة فيها معادلات رياضية معقدة، وإذا أراد أن يأمر الكائن بإعادة الحركة فإنه سيستخدم مفهوم الأنماط في علم الجبر و هكذا.
سابقاً كان يتطلب من المبرمج أن يكون مضطلعا بالرياضيات و متمكنا من مفاهيم الجبر و الهندسة التحليلية و المنطق الرياضي، أما حالياً فيستطيع أي شخص لديه مفاهيم أساسية في الحساب أن يعمل على برمجيات بسيطة.
استطاع المبرمجون أن يحولوا بعض الشفرات التي تحوي على تعليمات و أوامر موجهة للحاسوب إلى أيقونات واضحة و سهل الوصول إليها بحيث ينقر المستخدم على الأيقونة ليكون خطوات متسلسلة و مترابطة و ذلك لأداء مهمة معينة، وقد أصبحت البرمجة حديثا مفتوحة للجميع من مختلف الأعمار و الخلفيات الثقافية. استطاعت المنظمة العالمية code.org أن تجعل البرمجة في متناول الجميع و بدروس سهلة ميسرة في التفعيل و التطبيق و هكذا انهمك شبابنا و أولادنا في ساعة البرمجة و استطاعوا أن يتفوقوا فيها على مستوى العالم وذلك يدل على قدرتهم في التفكير بطريقة منطقية و إبداعية معتمدين بذلك على معرفة رياضية عميقة. فلكي يتحرك الكائن على شاشة الحاسب فإن الطالب سيطبق مفهوم الإحداثيات في المستوى الإحداثي. قد لا يدرك بأنه يحرك نقطة ما على المستوى إلا أنه يستطيع أن يستوعب حركة الكائن الملون الذي قد جذب اهتمامه ليحل مشكلة ما. ربما تكون هذه المشكلة غير واضحة في كتاب الرياضيات وقد تشعره بالتعقيد و عدم الجدوى بينما يضع حلولاً و بدائل على شاشة الحاسب لحل تفاصيل مشكلة استثارت عقله و تفكيره.
تشير نتائج الاختبارات الدولية مثل اختبار TIMSS إلى تدني مستوى التحصيل لدى طلابنا و طالباتنا في مادة الرياضيات (الشمراني، و آخرون، 1438)؛ مثل هذه النتائج قد تشير إلى مستوى التحصيل الدراسي إلا أنها لا تعطي بيانات حقيقية عن واقع تفكير طلابنا الذين استطاعوا أن يتفوقوا على مستوى العالم في حل المشكلات و المنطق و الإبداع وهم في أوج المتعة و الحماس. إنها ليست خدعة بل هي الواقع؛ الطلاب في الفصول لا يتعلمون كيف يستخدمون المعرفة في الحقيقة بل يعتقدون أن الواقع مختلف عن ما يتلقنونه في الفصول. يمارس الطلاب بعض مفاهيم الجبر في ساعة البرمجة بعمق فيطبقون مفهوم النمط على إعادة تكرار بعض الأوامر و بتسلسل واضح و مناسب لحل المشكلة، بينما في حصص الرياضيات تشكل الأنماط و التعميمات الجبرية عقبة صعبة لا يستطيع أغلب الطلاب أن يتوسعوا فيها كما يفعلون في المواقع التي تستضيف ساعة البرمجة.
يعمل معلمو الرياضيات في الصف على تدريس المفاهيم المجردة و خوارزميات الحل التي تركز على الإجراءات و ليس الاستيعاب، في حين يكمن الحل في تطبيق المعرفة و الوصول إلى مراحل الابتكار والإبداع. إن القضية لم تكن في تدريس تلك المفاهيم المجردة بل بمعرفة كيف يكون شكلها على شاشة الحاسب و ما الفائدة منها. يحتاج معلمو الرياضيات إلى إدراك اهتمامات طلابهم و مدى قدرتهم على الإنجاز في بيئة تحاكي واقعهم و ليس الواقع الذي يريده المعلم في بيئة صفية تقليدية.
إن اهتمام الشباب و الطلاب بالبرمجة و علوم الحاسب الآلي مؤشر جيد في قدرتهم على التعايش مع المستقبل، لا نستطيع أن نجبرهم على تقبل النظريات و المفاهيم الرياضية البحته بدون أن يكون لها ارتباط وثيق بتطلعاتهم و آمالهم المستقبلية. هذه الفجوة بين واقع الطلاب وواقع المعلمين قد تخلق مشكلة إذا لم يتدارك المعلم و قائد المدرسة وولي الأمر ذلك وقد يتولد لدى الطلاب قناعات بأن ما يتم دراسته في الفصول لا يرتبط بواقع حياتهم و لا جدوى من دراسته.
ما يحتاجه معلمو الرياضيات بالفعل هو تجريب مفاهيم البرمجة و الانخراط فيها و من ثم نقلها إلى المحتوى الدراسي من نفس النافذة التي تعلق من خلالها طلابنا بالبرمجة. سيكون من السهل على طلابنا التعلم في بيئة مدرسية تحاكي اهتماماتهم و تسير معهم في نفس الاتجاه لتطوير مهاراتهم و إكسابهم مهارات تعلم المعرفة و ليست المعرفة ذاتها. وقتها سيعانق طلابنا الصدارة في الرياضيات كما اكتسبوها في البرمجة.