مقالات وبحوث
سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الخامسة: السندباد البحري، الرحلة السادسة
دعا السندباد كل أصدقائه ومعارفه إلى مأدبة عشاء كبيرة وبعدما فرغوا من الطعام أخبرهم أنه التقى مجموعة من التجار قد وردوا إلى مدينة بغداد فاشتاق للسفر والتجارة وعزم على الرحيل، فحزنوا لسماعهم هذا القرار ولكنهم ودعوه وتمنوا له السلامة والتوفيق على أمل رجوعه قريبا بإذن الله.
اشترى السندباد بضاعة مناسبة وانتقل لمدينة البصرة فوجد سفينة عظيمة فيها تجار وأكابر ومعهم بضائع نفيسة فنزل معهم وانطلقوا على بركة الله.
كانوا ينزلون بالمدن والجزر يبيعون ويشترون ويتعارفون بأناس جدد. وذات يوم بينما هم سائرون بالبحر وإذا بربان المركب ينادي بصوت عال:” تعالوا هيا اقبلوا.. وا مصيبتاه.. وا مصيبتاه”. فاجتمع عليه التجار والركاب وسألوه:” ما الخبر يا قبطان؟”، فرد عليهم مفزوعا:” اعلموا يا جماعة الخير أننا قد تهنا بمركبنا وخرجنا من البحر الذي كنا فيه ودخلنا بحرا لم نعرفه من قبل، وإذا لم يقيض الله لنا شيئاً يخلصنا من هذا البحر هلكنا، لم يبق لنا سوى الدعاء والتضرع لله فهذا البحر غريب موحش لا أدري كيف وصلنا إليه”.
ثم قام الربان وصعد على الصارية وأراد أن يحل القلوع، فاشتد هبوب الريح على المركب حتى انكسرت دفته قرب جبل عال، فمال ثم تفرقت ألواحه فسقط جميع ما فيه في الماء، ومن الركاب من غرق ومنهم من تمسك بالجبل وطلع عليه وكان السندباد من بينهم، وإذا هناك جزيرة كبيرة عليها عدد من المراكب المحطمة وفيها أرزاق كثيرة، متاع وأموال مما يطرحه البحر من المراكب التي غرق ركابها.
طلع السندباد ورفقته على تلك الجزيرة وبدؤوا باستكشافها حتى وجدوا في وسطها عين ماء عذب حار خارج من سفح الجبل وعلى جانبيها أصناف من الجواهر والمعادن النفيسة فكانت جميع أرض تلك العين تلمع كاللآلئ، وظلوا يتجولون وهم في غاية الدهشة والعجب مما يرونه.
ثم قاموا بجمع شيء من الزاد وصاروا يفكرون ويسعون للخروج من الجزيرة ويوما بعد آخر لم يتوصلوا لحل مناسب حتى نفذ الطعام ومات أكثرهم وكان كل من يموت يغسلونه ثم يكفنونه في القماش الذي طرحه البحر على جانب الجزيرة ليدفنوه.
بقي السندباد مع بعض الرجال يكابدون الجوع ولكنهم سرعان ما ماتوا ولم يتحملوا قساوة الظروف، وبقي السندباد وحيدا، وقد ألم به حزن شديد وغم كبير بعدما تذكر ما كان يواجهه دوما من أهوال ويمر به من شدائد في أسفاره السابقة ثم قال:” لا يجب أن أيأس أبدا، ولن أقول يا رب لي هم كبير بل يا هم لي رب كبير”.
ثم بدأ يفكر ويحلل على أن عين الماء لها أول وآخر ولابد لها من مكان تصب فيه، والرأي السديد أن يصنع فلكاً صغيراً على قدر ما يجلس فيه وينزل مع السيل، أحسن من البقاء في مكانه ينتظر الموت.
ثم قام وجمع أخشاباً وشدها على جانب البحر بحبال المراكب التي كسرت وجاء بألواح ووضعها في ذلك الخشب وجعلها فلكا وأخذ بعض المعادن النفيسة والجواهر معه وانطلق.
ولم يزل سائراً إلى المكان الذي يدخل فيه النهر تحت ذلك الجبل حتى أدخل الفلك في مغارة وقد صار في ظلمة شديدة فغلبه النعاس ونام من شدة التعب حتى شعر بحرارة الشمس على وجهه ففتح عينيه ورأى مكاناً واسعاً والفلك مربوط على جزيرة ومن حوله جماعة من الهنود، فلما رأوه استيقظ اقتربوا منه وكلموه بلغة لم يفهمها ولم يعرف ما يرد به عليهم فنظر إليهم حائرا وقال:” السلام عليكم”، فتقدم إليه رجل منهم وقال له بلسان عربي:” وعليكم السلام، من أنت ومن أين جئت وما سبب مجيئك إلى هذا المكان ونحن أصحاب الزرع والغيطان وجئنا لنسقي غيطاننا وزرعنا فوجدناك نائماً في الفلك، فأمسكناه وربطناه عندنا حتى تقوم على مهلك، فأخبرنا ما سبب وصولك إلى هذا المكان؟” رد السندباد مطمئنا: “الحمد لله، ولكن فضلا هل لي ببعض الطعام وبعدها سأخبرك بقصتي؟”.
أسرع الرجل وأحضر طعاما فأكل السندباد حتى شبع واستراح ثم أخبرهم بجميع ما جرى معه من بداية رحلته حتى وصوله للنهر.
ثم تشاور الرجال فيما بينهم واتفقوا على اصطحابه معهم ليراه ملكهم ويقرر ما يفعله معه.
رحب الملك بالسندباد وسمع منه قصته كاملة فتعجب من حكايته الغريبة وهنأه بالسلامة.
فعند ذلك قام السندباد وأخرج من فلكه الجواهر وأهداها للملك، فسر الملك بكرم السندباد ولباقته فأنزله في مكان عنده، وعرفه على الأكابر والأخيار. وصار الملك يسأله عن أمور بلاده والسندباد يخبره بما يزيد إعجابه ببلاد العرب إلى أن سأله عن ملكهم فأخبره السندباد مفتخرا:” إنه الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله وهو أمير ملوك الأرض.إنه شغوف بالجهاد في سبيل الله و محب للعلم، فقد أنشأ بيت الحكمة منارة العلم والعلماء واهتم بجمع الكتب من بلاد فارس والهند واليونان، وجعله أقساماً منها ما يختصّ بالنسخ، ومنها ما يتعلق بتجليد الكتب، ومنها ما يخصّ الترجمة، إن خليفتنا –حفظه الله- عادل حكيم فطن عابد تقي ورع إذ يصلي مئة ركعةٍ في يومه وليلته، ويتصدق بألف درهمٍ كل يومٍ من صلب ماله، لنعم الرجل هو يحج عاما ويغزو عاما وكل الرعية تحبه وتطيع أوامره وتدعو له”.
فاندهش الملك لما سمعه وقال:”إن هذا الملك له أمور عقلية وأحوال مرضية، وأنت قد جعلتني أقدره وأحترمه من غير ما أراه، ومرادي أن أجهز له هدية وأرسلها معك إليه”.
قال السندباد:” سمعاً وطاعة يا مولانا أوصلها إليه وأخبره أنك محب صادق”.
بقي السندباد مقيما عند ذلك الملك في غاية العز والإكرام وحسن المعيشة مدة من الزمن، إلى أن سمع خبر جماعة من تلك المدينة قد جهزوا لهم مركباً يريدون السفر فيه إلى نواحي مدينة البصرة، فقرر مرافقتهم.
أسرع السندباد إلى الملك وأعلمه بقرار الرحيل قائلا:” أود السفر مع الجماعة في المركب الذي جهزوه من بعد إذنكم يامولاي، لأني اشتقت إلى أهلي وبلادي”، فقال الملك:” الرأي لك.. ولو أننا اعتدنا وجودك معنا وألفنا حديثك الطيب”.
أحضر الملك التجار الذين جهزوا المركب وأوصاهم بالسندباد خيرا ووهب له شيئاً كثيراً من عنده وأرسل معه هدية عظيمة إلى الخليفة هارون الرشيد.
ودع السندباد الملك وجميع أصحابه الذين كان يتردد عليهم ثم نزل المركب مع التجار وساروا، وقد طاب لهم الربح والسفر وهم متوكلون على الله سبحانه وتعالى، وبقوا مسافرين من بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة إلى أن وصلوا بالسلامة بإذن الله إلى مدينة البصرة فطلع السندباد من المركب وحمل متاعه وتوجه إلى مدينة بغداد دار السلام، ودخل على الخليفة هارون الرشيد وقدم له الهدية.
ثم ذهب السندباد عند أهله وأصحابه وفرق الهدايا على الجميع وكعادته وهب وتصدق وأدخل السرور على قلوب المساكين.
وبعد مدة من الزمان أرسل الخليفة إلى السندباد يسأله عن الملك الذي أرسل له الهدية فقال:” يا أمير المؤمنين لما غرق المركب الذي كنت فيه طلعت على جزيرة وصنعت لي فلكاً ونزلت في نهر كان في وسط الجزيرة فكان خلاصي إلى تلك المدينة، وقد أكرمني ملكهم ولما سألني عنكم وأخبرته بما نراكم عليه من أحوال فتعجب من ذلك غاية العجب وأرسل لك هدية مودة وتقدير.”
أعجب الخليفة هارون الرشيد بحكاية السندباد وأمر المؤرخين بكتابتها وجعلها في خزائن المكتبة ليعتبر بها كل من يقرؤها.
(تعليم جديد)