اخبار التعليم

التعليم بالأجهزة المحمولة : من أين جاءت هذه الدافعية؟

في عالمنا المتصل إلكترونيًا فرض التعليم بالأجهزة المحمولة نفسه على العملية التعليمية بمختلف مراحلها وأنواعها، واحتل فيها مساحاتٍ شاسعة. وتُرجِع الدراسات أسباب تفوق هذا النمط التعليمي الجديد إلى نجاحه في تحفيز المتعلمين على المشاركة الفعالة وتنمية الدافعية لديهم، مما يعني تحصيل المزيد من المعرفة، فكيف نفسر هذه الدافعية وهذا التحفيز في التعليم بالأجهزة المحمولة ؟

لكي ننطلق من أرضية مستوية، وَ درْءاً للخلط المفاهيمي، نود أن نوضح ماهية المصطلحين في العملية التعليمية، فما الحافز؟ وما الدافع؟ وما الفارق بينهما؟

لعل التعريف الأكثر شيوعا لمصطلح التحفيز ينص على أنه التحريك للأمام، فهو أيُّ إشارة (قولًا أو فعلًا) تدفع الإنسان إلى سلوك أفضل، أو تعمل على استمرار هذا السلوك. أما الدافعية فهي رغبة المتعلم في تحقيق هدف ما أو تحقيق سلوك معين. وبذلك نجد أن التحفيز يُوجِد الدافعية ويغذيها، ونجد أيضًا أن التحفيز يأتي من الخارج أما الدافعية فتكون من داخل المتعلم. يتفق هذا مع ما جاء في لسان العرب من تفسير للفظتين، حيث أورد أن حَفَزَ الشيء يعني حثه من خلفه سَوْقًا وغير سوق، وفي مادة دفع ذكر أنه يقال دافع الرجل أمر كذا إذا أولع به وانهمك فيه. هذا يعني أن التحفيز والدافعية هما أساس بناء المتعلم لخبراته التعليمية الجديدة، وأن حب الاستكشاف الموجه ذاتيًّا بمثابة اللبنة الأساسية التي تقوم عليها نظريات التحفيز والدافعية، فالتعليم يحدث من خلال تفاعلات متداخلة لا يمكن فصلها بين المتغيرات الإدراكية والتحفيزية، ولقد أثبتت النتائج أن البيئة التي تركز على المتعلم تنتج أداءً أفضل وتوجيها تحفيزيا أكثر ذاتية، وبذلك تتعزز الرغبة في التعلم وتحصيل المعرفة Rau, Gao and Wu (2008)

لقد اتفقت الأنماط التعليمية في وضع الحافز والدافع على رأس أولوياتها، ولكن النجاح في تحقيقهما قد جاء بدرجات متفاوتة بين هذه الأنماط، وإذا ما عدنا إلى التعليم بالأجهزة المحمولة -وهو التعليم القائم على الوسائط المتعددة باستخدام الأجهزة الإلكترونية المحمولة كالهاتف الذكي والحاسوب اللوحي- وجدنا الدراسات تشير إلى أنه فارس المرحلة وصاحب الغلبة في هذا الميدان. و أكد Furió. 2014 هذه الحقيقة في دراسة أجراها مع فريقه البحثي، قارن فيها التعليم التقليدي و التعليم بالأجهزة المحمولة من خلال عقد مقارنة بين مجموعتين من الطلاب؛ تعلمت المجموعة الأولى (التجريبية) عن طريق الأجهزة المحمولة، بينما تعلمت المجموعة (الضابطة) المحتوى التعليمي نفسه وفي الظروف نفسها ولكن بالتعليم التقليدي. وأظهرت النتائج أن المجموعتين قد حققتا تعلمًا في كلتا الطريقتين ولكن المعرفة المكتسبة كانت أكبر في التعليم بالأجهزة المحمولة ، وأن الدافع فيه قد تحقق باستخدام أجهزة أيفون، والذي قُدم كحافز وتلقى أعلى معدل في استبيان رضا الطلاب (Furió et al. 2014). وسعيا للهدف نفسه راجع Hwang et al. 2016 الدراسات المتعلقة بالتعليم بالأجهزة المحمولة في الفترة (2008 – 2012) وقد وجد بعد هذا المسح أن سبب انتشار هذا النمط التعليمي يعود إلى نجاحه في دعم إنجاز الطلاب وتحفيزهم وإثارتهم.

أثارت قضية تفوق التعليم بالأجهزة المحمولة في مجال التحفيز والدافعية شغف الباحثين فتناولوها بالبحث والدراسة محاولين رصد أسباب هذا التفوق وتأطيره نظريًّا. ولقد راجعتُ سبعة عشرة بحثًا ودراسة أكاديمية سبرتْ أغوار هذه الظاهرة ووجدتُ أنَّ الباحثين في هذه المسألة قد سلكوا اتجاهين (Shawky Alrassoul, 2018):

الاتجاه الأول يحاول تفسيرها في ضوء الخصائص المادية للأجهزة المحمولة، فيتحدثون عن الوزن، والحجم، والاتصال بالإنترنت، وتوفير الخصوصية للفرد، والتعلم عن بعد وخاصية الحمل والتنقل (2013(Rikala, . ويضيف Huang et al. 2016 أن التعليم بالأجهزة المحمولة لا يقتصر على الصف التقليدي، فهو عملية تعليمية مرنة، حيث التعلم في أي مكان وفي أي وقت، إضافةً إلى التفاعل الاجتماعي، والخصوصية الفردية وسهولة التنقل والحركة.

أما الاتجاه الآخر فيتجه ممثلوه من الباحثين صوب تصميم المحتوى التعليمي نفسه من خلال تحليل هذا المحتوى وطريقة تصميمه في ضوء نظريات قديمة للدافعية والتحفيز، ومحاولة تكييف هذه النظريات لتتناسب معه، وهذا أمر معتاد في العلوم الحديثة ولا يعيب الباحث ولا يقلل من قيمة إسهامه العلمي. ولعل أهم المحاولات في هذا الاتجاه دراسة حالة أجرتها الباحثة تشامبا (Ciampa, 2013) خلصت فيها إلى أن التحفيز والدافعية في التعليم بالأجهزة المحمولة وفي نظرية التلعيب أيضًا يمكن تفسيرهما في ضوء تصنيف يسمى مالون ليبير للدوافع الشخصية (Taxonomy of intrinsic motivations. Malone & Lepper,1987). تقول الباحثة أن هذا التصنيف هو النظرية الأنسب لتأطير الدافعية في التعليم بالأجهزة المحمولة لأنها تحلل بعمق مؤشرات التحفيز فيه. ولكن كيف أثبتت الباحثة هذه الفرضية؟

لقد صممت الباحثة دراسة حالة ونفذتها بمساعدة فريق أكاديمي على الصف السادس في مدرسة ابتدائية في جنوب كندا، يحتوي الصف على 24 طالب زودت الدراسة 10 طلاب منهم بحواسيب لوحية، واستعان الفريق البحثي بمعلمة الصف فدَرَّبَها على الملاحظة وأنشأ لها مدونة لتسجل فيها ملاحظاتها وكل ما يتعلق بالدراسة ورصد نتائج تطبيق هذا النمط التعليمي بعين الباحث مما يتيح للفريق المتابعة الدقيقة لسير الدراسة.

بعد انقضاء الفترة الزمنية المحددة للدراسة ومدتها خمسة أشهر أجرت الباحثة لقاءات فردية مع الطلاب العشرة وسألتهم عن طريقة تعليمهم بالحاسوب اللوحي وأسباب تحفيزهم وإثارتهم أثناء التعلم، فجاءت النتائج القائمة على الملاحظة والمستخلصة من المقابلات تصب جميعا في تصنيف مالون وليبير للدوافع الذاتية. وقد استهلت الباحثة نص الدراسة بعبارتين وردتا في المقابلات الشخصية تدلل بهما على صدق فرضيتها، العبارة الأولى جاءت على لسان أحد الطلاب يقول فيها إنه اعتاد صراخ الأطفال بصوت عال داخل الصف، ولكن مع بداية استخدامهم للحاسوب اللوحي اختلف الأمر وساد الهدوء لأنها حازت انتباه الطلاب. العبارة الثانية وردت على لسان المعلمة التي قالت إن طلابها متحمسون ويستمتعون باستخدام الأجهزة اللوحية والتطبيقات بدافعية عالية، لأنهم لا يخرجون عن مهمة العمل المحددة لهم.

واستعراضًا لتصنيف مالون وليبير (Malone & Lepper,1987) للدوافع الذاتية فيُعرَف بأنَّه نظرية تقوم على أن المتعلم يشترك في نشاط ما بسبب الدوافع الداخلية التي تجعله يبدي اهتماما ويستمتع بالنشاط، وكذلك بسبب الدوافع الخارجية التي تجعله يطمح إلى تحقيق النتيجة ونيل المكافأة (Snow & Farr,1987). وبالتالي تصنف هذه النظرية الدوافع إلى ست فئات تندرج تحت قسمين، ثلاث دوافع داخلية هي التحدي والفضول والتحكم، وثلاث دوافع وخارجية هي التقدير والتعاون والمنافسة. وسنتناول فيما يلي نتائج دراسة الحالة التي توصلت لها تشامبا (Ciampa,2013) في ضوء هذا التصنيف.

أولًا- الدوافع الداخلية للتعلم

– التحدي :

إن إعطاء المهام تدرجا في مستوى الصعوبة، والتعامل مع المعلومات المفقودة يضع المتعلم في موقف تحدٍ للبحث عن هذه العناصر المفقودة، وكلما زاد مستوى المهارات في الصعوبة زادت التحديات. ولقد استشهدت الباحثة بما جاء في مقابلة أحد الطلاب حيث ذكر أن الزمن الذي يقضيه على الجهاز اللوحي الآن أقل من ذي قبل بعد أن تغلب على معظم الألعاب. ويذكر طالب آخر أن الألعاب والتطبيقات على الجهاز اللوحي تدفعه وتحمسه كثيرًا مثل ألعاب الكلمات حيث تصبح الكلمات أصعب في كل مرحلة، وهذا أمر جيد لأنه لا يمكن الحصول على الكلمات السهلة فقط طوال الوقت، وفي كل مرة يحصل على كلمة فإن هناك صعود للمؤشر “عليك أن تحاول الوصول إلى هدفك”. ومن الملاحظات الهامة التي دونتها معلمة الصف أن التغذية الراجعة الآنية التي يوفرها هذا النمط من التعليم تحفز الطالب على قبول التحدي والاستمرار فيه.

– الفضول :

وينقسم إلى فضول حسي وفضول معرفي: فضول حسي حيث يجد المتعلم نفسه منجذبًا إلى التغييرات التي طرأت على الموقف التعليمي، فالتعلم القائم على الوسائط المتعددة أفضل من التعلم القائم على مجموعة صور وكلمات، فالوسائط تشجع على المعالجة الإدراكية النشطة والحد من الإنهاك المعرفي. يقول أحد الطلاب عن تطبيق تعليم الرياضيات إنه غني بالألوان حقًّا، ويحتوي الكثير من المخططات والجداول، ويمكن رسم ما يجول في الذهن على هذا التطبيق. أما الفضول المعرفي فيكون عندما يكتشف المتعلم أن معرفته غير كاملة فتتكون الرغبة في استكشاف معلومات جديدة؛ بالإضافة إلى ذلك فهو فضول ينمي في المتعلم جانب التعلم غير الرسمي الموجه ذاتيًّا خارج نطاق الصف فيتعلم في أيّ وقت وفي أيّ مكان بفضل وفرة الوسائط والمعلومات وتنوع المصادر. ترى إحدى الطالبات أنه من السهل جدًّا الانتقال من تطبيق إلى آخر، ومن السهل تشغيل مستعرض إنترنت، فإذا كانت هناك كلمة لا تعرفها يمكنك البحث عن معناها بسهولة. وتقول أخرى: “إن ما يمكننا فعله مع الجهاز اللوحي غير محدود حقًّا، على سبيل المثال، تستمتع بتطبيق iBooks على الجهاز اللوحي لأنه يمكنها العثور على أي كتاب؛ بينما في المكتبة، لا يوجد الكثير من التنوع والخيارات”.

– التحكم :

وهو منح الطلاب السيطرة على تعلمهم من خلال إعطائهم خيارات في المهمة التي يتعاملون معها فضلا عن تحكمهم في طرق العرض ومستوى الصوت، فالعرض التقديمي متعدد الوسائط يصبح فعالًا عندما يطوعه الطالب لعالمه الخاص. وعلى لسان إحدى الطالبات ورد رأيٌ يؤكد ذلك، حيث أنها استفادت من تطبيق تعليم الرسم بسبب أنها تستطيع إيقاف الفيديو عند كل خطوة جديدة وإعادة مشاهدتها، وهذا لا يتوفر إلا مع هذه الأجهزة. ويضيف طالب آخر “تمكنك القراءة على الجهاز اللوحي بالسرعة التي تناسبك. ليس عليك الاستماع إلى المعلم وهو يتحدث بسرعة كبيرة أو ببطء لأنه إذا كان سريعًا جدًّا فلن تتعلم شيئًا وإذا كان بطيئًا جدًّا فستضطر للاستماع إلى أشياء تعلمتها بالفعل”.

ثانيًا-الدوافع الخارجية

– التعاون :

الأجهزة المتنقلة تصنع بيئة تعليمية تجمع كل الطلاب بغض النظر عن القدرة أو الخلفية أو أسلوب التعلم، وتضع الطلاب في ساحة لعب متكافئة وتشركهم في الأنشطة. وقد نصت نتائج الدراسة على أن التعاون سَهَّلَ الأداء وشجع الطلاب على بذل المزيد من الجهد مما زاد إنتاجية الطلاب. و تقول المعلمة إن الطلاب يريدون أن يكونوا معًا طوال الوقت، كما تنقل لنا قصة ليزا التي كانت ترفض الانخراط مع باقي الطلاب في أي نشاط وبعد عملها على تطبيق الفيديو مع زملائها تغير وضعها الاجتماعي وأحبت العمل على الحاسوب اللوحي.

– المنافسة :

يوفر التعليم بالأجهزة المحمولة تقييمًا للذات، لأنه يقيس أداءها بالنسبة لأداء الأقران، ويقيسها أيضًا بالنسبة للأداء الأمثل الذي يحدده النشاط التعليمي. ويُنظر للتعليم بالأجهزة المحمولة على أنه أداة دعم للتقييم القائم على تمكن الطالب ودرجة إجادته، بدلًا من التقييم الموجه للأداء حيث النجاح فيها يرتبط بزيادة الكفاءة الذاتية. و تحكي معلمة الصف عن تطبيق الرياضيات الذي وجه إلى الطلاب خمسين سؤالًا وقد استغرقوا في حلها وقتًا طويلا، ثم في المرة التالية وبسبب المنافسة تقلص زمن الإجابة إلى عشرين دقيقة فقط مما جعل الطلاب يشعرون بالرضا.

– التقدير :

في التعليم بالأجهزة المحمولة تكون أعمال الطالب وإنجازاته خاضعة للمشاهدة والاطلاع من قبل آخرين، فالمعلم والأقران وأولياء الأمور يمكنهم الاطلاع على نسبة تقدم الطالب في مهامه التعليمية وبالتالي تتحسن فرصة نيل التقدير والمكافآت منهم. و يشعر الطلاب بالرضا عن خبراتهم الإيجابية في التعلم وتعزيز هذه الخبرات خارجيا عن طريق المكافآت والتقدير، لهذا تكمن كون أهمية هذه النتائج مرئية للآخرين. و تقول معلمة الصف في ملاحظاتها إن الطلاب يقدمون أفكارهم إلى الفصل ويشعرون بسعادة غامرة لمشاركتها مع الجميع.

وفي دراسات أخرى نجد هذه النتائج قد ذكرت ضمنيا ولكنها لم تُفسر في ضوء تصنيف مالون وليبير للدوافع الذاتية (Malone & Lepper,1987)، ففي دراسة حالة قدمها Huang et al، 2016 في شمال تايوان خلصت إلى أن المجموعة التجريبية التي طُبق عليها التعليم بالأجهزة المحمولة قد أظهرت إنجازًا كبيرًا، في حين لم تظهر المجموعة الضابطة التي طبق عليها التعليم التقليدي تحسنا يُذكر. وقد أظهر الاستبيان حول الدافع في هذه التجربة حول أداء التعلم أن المجموعة التجريبية قد تعلمت الدروس الموجودة على التعليم بالأجهزة المحمولة بغض النظر عما إذا كانت مخصصة لهم أم لا. وأوضح الاستبيان أيضًا أن الطلاب الضعاف قد حاولوا تحسين أنفسهم بمساعدة الطلاب ذوي القدرات التعليمية الأعلى. ولقد عبر الطلاب عن مساعدة التعليم بالأجهزة المحمولة لهم في التعلم خطوة بخطوة وفقًا لسرعتهم الخاصة، ومن خلال التفاعل فهموا وتعلموا ما تعلموه بسبب التعاون الجماعي. ولقد أعربوا عن رضائهم في استخدام التعليم بالأجهزة المحمولة لسهولة أدواته، واعتبروا أنه مفيدٌ لهم.

إن معدل ملكية الشاشات الذكية بين الأطفال آخذ في الازدياد حتى تحولت غرفهم إلى مراكز وسائط متعددة. وبالوتيرة نفسها تتسابق المدارس في إدخال التعليم الإلكتروني بمختلف أنواعه إلى صفوفها، وبهذا تتضح لنا أهمية اختيار المحتوى التعليمي الذي يخدم العملية التعليمية ويوفر للطالب الدافع والحافز المناسب. وللتربويين المتحفظين على استخدام التطبيقات الإلكترونية -تلافيا لأضرارها التي قد تصيب الطلاب- نقول لهم هذه هي عناصر الدافعية والتحفيز التي استحوذت بها الأجهزة الإلكترونية المحمولة على انتباه الأطفال وعلينا توظيفها في أنشطتنا التعليمية.

 

تعليم جديد

إغلاق