اخبار التعليم
قراءة في نظرية التعلم الاجتماعي
لم يعد التعليم كما كان في الماضي ( فعل إلقاء وتلقي ) يقوم على المخزون المعرفي لدى المعلمين، والقدرة الاستيعابية لدى الطالب. فمع تطور الحياة بكافة جوانبها ودخولها عصرها التكنولوجي، تراجعت أهمية المعرفة إلى الدرجة الثانية، ليتربع على عرش العلم الجانب التطبيقي أو ما يسمى كفاءة الممارسة. وهنا برزت التخصصات المختلفة والمتنوعة لتحقيق أفضل أشكال الكفاءة، عن طريق الاهتمام المركّـز على الجزئيات، بدلاً من الضياع ضمن العموميات والقضايا الكلية، التي لا تستطيع تجاوز الحاجز النظري.
من هنا كان لا بدّ للتعليم أن يسلك طريقاً مماثلاً ليواكب الوجه الجديد للحياة ويكون قادراً على الإيفاء بمتطلباتها. فأنتج القائمون على العملية التعليمية والمهتمون بها عدة نظريات وأبحاث وطرائق تحاول الوصول إلى الغاية المنشودة. وكانت أغلب هذه النتاجات ذات فائدة كبيرة بمختلف جوانبها أو أحد جوانبها على الأقل، ودخل التعليم مع مختلف هذه النتاجات مرحلة جديدة، بدأت تتغير معها معظم جوانبه النظرية القديمة، وأصبح في تطور وتجدد مستمر، لا يقف عند حدٍ معين بل دائماً ما تفتح مجالاته الجديدة فرصاً إبداعية تحاول الوصول إلى طرق أكثر حداثة من سابقاتها، قادرة بشكل أفضل على مواكبة العالم المتسارع في جميع أشكاله.
و نظرية التعلم الاجتماعي هي واحدة من هذه الجهود التي حاولت أن تطور التعلم والتعليم، ولقد تميزت هذه النظرية بشموليتها، ودراستها لمختلف نواحي التعلم، فلقد حاولت النظرية أن تلمّ بمختلف نظريات التعلم السابقة، وتستفيد منها، مشكلةً إياها في الإطار الأهم في العملية التربوية التعليمية، وهو الإطار الاجتماعي، الذي يمثل المدخل للتعليم أو المادة الأولى له والغاية منه، إنه بعبارةٍ أخرى ” الجسر الذي يحمل التعليم ليصل إلى نفسه “.
سيحاول هذا المقال الإلمام بمختلف جوانب نظرية التعلم الاجتماعي مبرزاً أهميتها، ومتوقفاً عند أبرز النقاط التي عالجتها النظرية، إضافةً لمحاولته تبيان الطرق التعليمية التي أفادت هذه النظرية، أو تلك التي نتجت عنها.
لقد اعتمد المقال في مجمله على مرجع واحد، هو كتاب نظريات التعلم (دراسة مقارنة) لـ : جورج إم غازدا، وريمون جي كورسيني وآخرون، ترجمة الدكتور علي حسين حجاج، ولقد كان عملنا في هذا البحث هو إلقاء الضوء على هذه النظرية، والقيام بتوضيح بعض النقاط فيها بحسب فهمنا لها، والتي لم تكن موضحة في الكتاب، إضافة إلى التلخيص والتصنيف والتنظيم بما يسهل فهم النظرية واستيعابها، لتحقيق الإفادة المرجوة منها.
مدخل:
إن أهم ما يجب تحديده قبل الولوج في أي موضوع للدراسة هو المصطلح، فالكثير من اصطلاحات العلوم الحديثة لا تحيل إلى معناها اللغوي الذي يتبادر للذهن منذ الوهلة الأولى، ولعل ذلك يرجع إلى أمورٍ كثيرة، أهمها : أن معظم الاصطلاحات الحديثة منقولة عن طريق الترجمة، وقلّما تستطيع الترجمة نقل المعنى بأمانة ولفظٍ منسجم معه.
ونظرية التعلم الاجتماعي ليست بعيدة عن هذا الإشكال، فمن خلال تتبع هذه النظرية تبين لنا أنها ليست نظريةً – كما يفهم من الوهلة الأولى – تعتمد على التعلم من المجتمع، أو نظرية تعتمد الطرق الاجتماعية في التعلم، ” إنها باختصار نظرية تستفيد من معطيات الحياة الاجتماعية في عملية التعلم “.
نشأت نظرية التعلم الاجتماعي على يد جوليان بي. روتر حيث استفادت من التقاليد الواسعة لكلٍ من نظرية التعلم ونظرية الشخصية، وتبحث هذه النظرية في السلوك المعقد للأشخاص في المواقف الاجتماعية المعقدة… كما تُحدث تكاملاً بين ثلاثة اتجاهات تاريخية واسعة في علم النفس هي : السلوك والمعرفة والدافعية وتؤكد النظرية على أنماط السلوك التي يجري تعلمها، والتي تتحدد في نفس الوقت بفعل متغيرات التوقع (المعرفة) وقيمة التعزيز (الدافعية) لذلك فإنّ نظرية التعلم الاجتماعي تجمع الخطوط المتنوعة للنظرية السلوكية ونظرية الدافعية ونظرية المواقف في إطار مطَّرد وثابت.
إنّ الشمولية التي تمتعت بها نظرية التعلم كما هو واضح آنفاً لم تكن وليدة فكر ضابط على مستوى فردي، فلقد عرفت تضاعيف هذه النظرية نظريتان أخريان من نظريات التعلم الاجتماعي سادتا الموقف بجانب نظرية روتر.
الأولى : هي نظرية “جون دولارد، ونيل ميلر ” التي تعد إحدى صيغ المثير والاستجابة، وقد أسهمت هذه الصيغة في إضفاء الجانب التجريبي على نظرية التعلم على أحد أهم جوانبها، وهو الجانب الإنتاجي المباشر ( مدى تحقق الفعل التعليمي وفعالية المثيرات ).
أمّا الثانية : فهي الطريقة التي قام بها “ألبرت باندورا” حيث يقدم مفهوماً للتعلم الاجتماعي يؤكد إلى حد كبير على دور الملاحظة، فالملاحظة المنصوص عليها هنا تنسجم إلى حد كبير مع التعريف الذي وضعناه لنظرية التعلم – بحسب فهمنا لهذه النظرية – وتشكل بالتالي ركناً أساسياً من أركانها، فالملاحظة هنا لمختلف جوانب العملية التربوية التعليمية من معلم ومتعلم وبيئة ووسائل وكذلك الجوانب الشخصية والسيكولوجية والبيولوجية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بهذه العملية بغية توظيفها على الشكل الأمثل، والذي يساهم في إعطاء أفضل النتائج المرجوة في السلوك النهائي للمتعلمين.
بدأت نظرية التعلم الاجتماعي تأخذ شكلها الحالي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن المنصرم، ولقد نهلت هذه النظرية من مصادر متنوعة تضم علماء أمثال : أدلروفرويد و هلو ليفين و كانتور و ثورندايك و تولمان. ولم تتوقف هذه النظرية عن التطور ضمن أشكال واتجاهات متعددة فدخلت معظم ميادين التربية وعلم النفس والصحة العامة وتغيرات السلوك … وغيرها، كما لعبت دوراً هاماً في بناء الاختبارات ضمن الميادين السابقة، وخاصة اختبارات الشخصية.
أبرز النقاط التي اشتملت عليها النظرية :
1 – الدافعية ( الحافز ):
ركزت معظم نظريات التعلم و نظرية التعلم الاجتماعي على الدافعية بوصفها نقطة البدء في كل عملية تعليمية، فإذا لم تتوفر الرغبة في التعلم، ولم نستطع نحن توفيرها بطريقة ما، فمن المستحيل أن يحدث التعلم مهما بذلنا من جهود مضنية، وعلى هذا فإنّ أهم ما ينبغي أن تهتم به استراتيجيات التعلم بالدرجة الأولى هو تحقيق الدافعية، وما قامت نظرية التعلم الاجتماعي بإضافته ضمن هذه النقطة هو ( التوقع ) الذي يعد أبرز النقاط التي تحدثت عنها النظرية وربطته بمختلف القضايا التي عالجتها كما سيأتي. حيث تقول النظرية : ” يتحدد السلوك ليس عن طريق الأهداف والمعززات فحسب، بل كذلك عن طريق الحافز الذي يجعل المتعلم يؤمن بتحقق السلوك ويسعى إليه “.
2 – التعزيز:
يعتبر التعزيز أحد بواعث تكرار السلوك وإتقانه، كما يعتبر موصلاً إلى الدافعية (حافزاً للسلوك)، لذلك فكثيراً ما تربط نظريات التعلم بين مفهومي التعزيز والدافعية، أما نظرية التعلم الاجتماعي فقد ركزت على ربط مفاهيم التعزيز بالتوقع في إطار نظرية واحدة، ففي حين أنّ كل مفهوم يظهر قصوراً تنبئياً حاداً، فإن اتحاد المفهومين يصبح أداة قوية في خدمة التنبؤ.
3 – التوقع (التنبؤ):
يعد التنبؤ أكثر الجوانب التي اهتمت بها نظرية التعلم الاجتماعي ، وحاولت على الدوام من خلال تطبيقاتها الإجرائية الوصول إلى كيفية إنتاج توقعات تعميمية معينة، وجعلت من التنبؤ أحد غاياتها التي تسعى إلى تحقيقها في إطار الضبط للعملية التعليمية. وربطته كما رأينا وسنرى بمختلف جوانبها، ومرتكزاتها الأساسية.
4 – الثقة المتبادلة بين الأشخاص:
“الكثير من السلوك الإنساني إنّما يحدث في بيئة مليئة بالمعاني، ويُكتسب من خلال التفاعل الاجتماعي مع الناس الآخرين“، انطلاقاً من هذه المسلّمة قدّم روتر عام 1966 مفهوم الثقة المتبادلة بين الأشخاص، وألح على هذا المفهوم من أجل تعلم يقوم على المصداقية والثبات، كما ربط توقعات حل المشكلات بالأفكار المتعلقة بالثقة المتبادلة بين الأشخاص، والضبطين الداخلي والخارجي للتعزيز، وقد أدى هذا المفهوم إلى أبحاث هامة، وعنه نشأت مؤخراً طريقة التفاوض في التعليم.
5 – الخبرة السابقة أو المعرفة:
خبرات الإنسان تؤثر على ببعضها البعض، وبعبارة أخرى فإنّ للشخصية وحدة، حيث تتلون الخبرة الجديدة بالمعاني المكتسبة، والمعاني التي سبق اكتسابها تتأثر وتتغير بفعل الخبرة الجديدة، ومن ناحية مثالية فإنّ التنبؤ الكامل للسلوك المتعلَّم يتطلب معرفة تامة بالخبرات.
6 – الشخصية:
إن من أكثر القضايا التي نالت اهتماماً ملحوظاً في نظرية التعلم الاجتماعي هي الشخصية، فهي نظرية موجهة نحو الشخصية، فبالإضافة إلى اهتمامها بالتوقع والدافعية وقيمة التعزيز، فإنها تركز بشكل كبير على الحاجة وحرية الحرية وقيمة الحاجة، وترى في هذه الأمور ضرورات لابدّ منها لبناء الشخصية، وفي سعيها لتطوير الشخصية لا تحاول نظرية التعلم الاجتماعي البحث في الشخصية البالغة النمو فحسب، وإنما في مسألة تطور الشخصية وهي بهذا تؤكد على دور خبرة الأفراد وعلى الاختلافات بينهم في المواقف التي يواجهونها.
7 – الفروق الفردية :
تعتبر نظرية التعلم الاجتماعي الفروق الفردية جزءاً مهماً من النسيج الاجتماعي الذي لابدّ من أخذه بعين الاعتبار أثناء عملية التعلم، ولهذا فهي تركز على دور الفروق الفردية في الوقوف موقف الوسيط في عملية السلوك والتعلم.
قضايا نظرية التعلم الاجتماعي :
1- وحدة البحث هي التفاعل بين الفرد وبيئته المعنوية (ذات المعنى) : أي أنّ التنبؤ المفيد للسلوك الإنساني لا يمكن أن يتم بدون وصف ملائم للبيئة أو المواقف التي يحدث فيها السلوك. ويشير تعبير ذات المعنى إلى البيئة كما تُدْرَك، أي : كما يراها الفرد، وبعبارة أخرى فإن أهمية البيئة لا تكمن في مؤشراتها الموضوعية، وإنما في المعنى الذي تكتسبه بالنسبة للفرد، وهذا يعتمد على الخبرات السابقة، ومدى نضج هذه الخبرات بما يشكل هذا المعنى أو ذاك في ذات الفرد.
2- تراكيب هذه النظرية لا تعتمد في تفسيرها على تراكيب من أي مجال آخر، حيث يرى روتر“أنه من أجل إنتاج تعليم جيد، علينا أن لا نحاول تفسير جزئيات هذا التعليم من خلال أمور خارجة عنه، فيجب الانطلاق من التعليم للوصول إليه“.
3- يحدث السلوك في زمان ومكان، ويمكن أن يتم وصفه عن طريق تراكيب سيكولوجية، وأيضاً عن طريق تراكيب طبيعية.
4- ليس من الممكن وصف كل السلوك بطريقة مفيدة من خلال التراكيب الخاصة بالشخصية، فمستوى تطور الكائن الحي وتعقيداته، ومراحل نموه هي من الأمور الحاسمة.
5- السلوك له جانب اتجاهي، وقد يقال السلوك موجه نحو الهدف، والجانب الاتجاهي يمكن استخلاصه من أثر الظروف المعززة، وهذا ما يبرز دور الدافعية في السلوك الإنساني.
أهمية نظرية التعلم الاجتماعي :
– إنّ روتر لم ينظر إلى الموضوع من حيث إذا كانت النظرية أو مفاهيمها حقيقية أو تصل إلى جوهر الواقع، لكنّ اهتمامه كان منصباً على النفعية، فمقياس النظرية الجيدة هو ما إذا كانت مفيدة في فهم الأحداث التي نسعى للتعامل معها، فهو يرى أنّ النظرية لا تقدم مخططاً للحقيقة أو الواقع، بل طريقة للنظر إلى الأحداث ومنهجا لتفسير العالم.
– إنّ المناهج المستخدمة في نظرية التعلم تهدف إلى هدفين عامين، الأول : هو تعليل الطريقة التي يكتسب بها الأفراد أنماط سلوكهم أو يقومون بتغيير هذه الأنماط، والثاني : تحديد الظروف التي يختارون في ظلّها أن يسلكوا طريقاً دون آخر، وهذا ما أطلق عليه روتر (النظرية العملية)، التي تحاول تحديد العلاقات بين الحوادث السابقة والسلوك اللاحق… كما تحاول تحديد العلاقات المجردة بين المتغيرات.
– إنّ معظم نظريات التعلم تركز على كيفية التعلم أكثر من محتوى التعلم… ولكن نظرية التعلم الاجتماعي ترى أنّ الاهتمام بالمحتوى شيء أساسي، لذلك فهي تنظر إلى متغيرات التعلم في صورة أعضاء مترابطة وظيفياً.
الخاتمة:
لم يكن هذا البحث يستهدف، عرضاً لنظرية التعلم الاجتماعي فحسب، وإنّما حاول تقديم قراءة جديدة لها، تستفيد من نصّها الأساسي لتحاول من خلال إعادة التنظيم والتصنيف تقديم فهم جديد يسهم في تطويرها، فحاولت استخراج نقاط بارزة في النظرية وإضاءتها ليسهل استخدامها في الجانب الوظيفي التطبيقي، كما شرح بعض النقاط التي نالت منها أساليب الترجمة فحولتها إلى غموض واضطراب.
وحاولتُ في النهاية أن أبرز أهمية هذه النظرية من خلال نصوص تفرقت فيها هنا وهناك، فقمت بجمعها ضمن نسق واحد، لنستنتج في الختام الطرائق التي نتجت عن تلك النظرية والتي استفادت من معطياتها موضحةً دورها في الجانب الإجرائي.
أخيراً لا بد أن نذكر أن هذه النظرية لا تمثل ولن تكون حلقة نهائية في العملية التربوية التعليمية، على الرغم مما تمتعت به من شمولية واتساع ضمّت الكثير من الميادين الأخرى. فالعالم المتسارع من حولنا يتطلب إبداعاً مماثلاً يحاول دائماً أن يرتقي به نحو الأفضل.
تعليم جديد