اخبار التعليم
الذكاءات المتعددة وإسهاماتها في تطوير منهج التربية
تتعدد نظريات التعليم المستخدمة في المرحلة التعليمية K-12 بناءً على مدرستي علم النفس السلوكية والإدراكية. أما المدرسة السلوكية، فتُعد أقدم مدارس علم النفس، والتعلم فيها ينصب على كيفية “اكتساب السلوك وتعديله” عبر التعزيز القائم على مبدأ مثير/استجابة، أو بناءًا على مبدأ المحاولة/الخطأ. وكلا المبدأين يركزان على تناول ودراسة الجانب البيولوجي فقط.، فالتعلم في المدرسة السلوكية هو عملية إنشاء روابط، أو علاقات في الجهاز العصبي بين الأعصاب الداخلية التي يثيرها المنبه المثير، والأعصاب الحركية التي تُنبه الغدد، أو العضلات، فتعطي بذلك استجابات محددة. ويُعد عالم النفس الأمريكي واطسون (1878م – 1958م)، ومعه كلاً من الأمريكي ثورندايك (1898) والروسي بافلوف (1902) هم من أسسوا لنظريات التعلم وفق المدرسة السلوكية استنادًا على دراسة الجانب البيولوجي. ومن ثَمَّ، فقد قامت المدرسة السلوكية بإجراء التجارب على الحيوانات، ثُمَّ تعميم نتائج تلك التجارب على الإنسان باعتبار أنه كائن حي تحركه مثيرات فيزيائية، فتصدر عنه استجابات غدية، فمثله مثل الكائنات الحية نظرا لتشابه الجانب البيولوجي لدى كلاً منهما. ومن أشهر هذه التجارب التي انسحبت آثارها على نظريات التعلم السلوكي؛ تجربة بافلوف على الكلب، والتي أفرزت ما يسمى بمبدأ مثير/استجابة، وتجربة ثورندايك على القط، والتي أسست لمبدأ المحاولة/الخطأ.
أما المدرسة الإدراكية، فتُعد من أحدث المدارس المعرفية في علم النفس، ومن أهم مبادئها التركيز على أن التعلم هو “بناء المعارف” بواسطة المتعلم نفسه عبر التفاعل المتبادل بين المتعلم والواقع. وهي بذلك تخالف المدرسة السلوكية التي تعتمد على أن مهمة التعلم هي “تعديل السلوك” اعتمادًا على الأنشطة الحسية الخارجية.
لقد قامت المدرسة السلوكية على دراسة “السلوك”، وأثر البيئة الخارجية (المثيرات) في تعديل “استجابات” المتعلم؛ غير أنَّ المدرسة الإدراكية هدفت إلى تمكين المتعلم من بناء “المعرفة” وفق قدراته الذهنية، وفي بيئة تعلم تفاعلية بينه وبين المحيط (التفاعل بين ذات المتعلم وواقعه). وإضافة إلى ما سبق؛ فإن المدرسة السلوكية ترى أن الهدف من التعلم هو: تعديل السلوك الخارجي للمتعلم؛ بينما ترى المدرسة الإدراكية أن هدف العملية التعليمية هو: اكتساب المعارف عبر نشاط ذهني يقوم به المتعلم من خلال عمليات عقلية، مثل: الإدراك، و الفهم، والاستنباط بغرض توظيفها في إنتاج معارف جديدة. وتُعد نظرية الذكاءات المتعددة لهوارد جاردنر أبرز نظرية خرجت من عباءة المدرسة الإدراكية التي ترتكز على مبدأ “التفكير الإيجابي-Positive Thinking”.
ب- مفهوم الذكاءات المتعددة
تندرج نظرية الذكاءات المتعددة تحت مدرسة علم النفس الإدراكية باعتبارها نموذج معرفي Cognitive- يسعى إلى تمكين الإنسان من استخدام ذكاءاته -قدراته الذهنية- في تحقيق نتائج محددة، مثل: إحاطة بمعرفة، أو اتخاذ قرار، أو حل إشكالية، أو تطوير سياسة. فذكاءات الإنسان متعددة، غير أن هذه الذكاءات تتابين مستوياتها بين بني البشر، باعتبار أن الناس ليسوا نفسًا واحدةً. والتعلم يُعد أكثر أدوات الإنسان فاعلية في تنمية ذكاءات الإنسان. وفي نفس الوقت؛ فإن اكتشاف الإنسان لذكاء/ذكاءات معينة يحوزها يُساهم في توجيهه إلى استراتيجيات تعلم محددة، وخبرات تعليمية مكافئة لتلك الذكاءات، وبالتالي يعمل على تطويرها. وقد قدم جارندر سنة 1983م نظرية الذكاءات المتعددة باعتبار أن ذكاء الإنسان ليس واحدًا كما قال: “الفرد بنيه” عالم النفس الفرنسي-، ومن تبعه من العلماء، بل تتعدد ذكاءات الإنسان. وتمثلت هذه الذكاءات في سبعة ذكاءات في بداية الأمر، وبعد عقدِ من الزمان أضاف جاردنر اثنين آخرين ليصبح مجموعهم تسعة ذكاءات، ولكن الشائع من هذه الذكاءات في وقتنا الراهن ثمانية: اللغوي / الخيالي/ المنطقي-الرياضي / الحركي / الموسيقي/ الطبيعي / الاجتماعي / الخيالي.
ينطلق هوارد جاردنر الأستاذ بجامعة هارفارد، وصاحب نظرية الذكاءات المتعددة من مُسلمة: أن كل الأطفال يولدون ولديهم كفاءات ذهنية متعددة، منها ما هو قوي، ومنها ما هو ضعيف، ومن شأن التربية الفعالة أن تُقوي ما هو قوي، وتُنمي ما هو ضعيف. كما أن هذه النظرية لم تُقٍر بربط القدرات الذهنية بعامل الوراثة فقط، ومن ثَمَّ تُسلب من الإنسان كل إرادة في تنمية هذه الذكاءات، فلا يوجد هناك إنسان وُلد ذكيًا، وآخر غبيًا، بل كل ما هنالك هو اختلاف بين البشر في حيازة/ارتفاع مستوى ذكاء مقابل آخر. إضافة لما سبق؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة تُعد خبرة تعليمية متنوعة تستجيب لقدرات جميع المتعلمين، وأداة تقويم شاملة لجميع جوانب المتعلم، ولا تقتصر على قياس المجال الأكاديمي فقط.
ج- إسهامات نظرية الذكاءات المتعددة في تطوير منهج التربية
أولاً: منهج التربية ودور الذكاءات المتعددة في تطويره
يُعد منهج التربية مقياسًا لتقدم الشعوب ورفاهيتها. ودليل ذلك: دولة سنغافورة التي لا يتجاوز عدد سكانها خمسة ملايين نسمة قد بلغ إجمالي دخلها القومي 307.9 مليار دولار في عام 2014م، في نفس الوقت التي جاءت رقم واحد في التربية من بين 140 دولة في عام 2015م، وهذه الأرقام تؤكد على تلازم التربية والتنمية. وهذا التلازم يتضح في أن الاقتصاد السنغافوري اقتصاد إبداعي يعتمد في مجمله على رأس المال البشري (Human Capital)، ومن ثَمَّ، فقد سعت سنغافورة إلى تطوير مناهجها الدراسية من أجل تنمية رأسمالها البشري، باعتبار أن تطوير المناهج التربوية هو الأداة المثلى في تنمية رأس المال البشري وتطويره، كما أنه طريق التنمية الأميز نحو عالم المعرفة، والقوة، والرفاهية.
وتجدر الإشارة إلى أهمية الالتفات إلى أسس تطوير منهج التربية باعتبار أن لكل بناء أسس يقوم عليها، وأن لكل عملية تطوير أسس مُستمدة من أسس البناء ذاته؛ ومن هذه الأسس: استناد التطوير إلى ثقافة وفلسفة تربوية نابعة من المجتمع نفسه، وإلى دراسة لنفسية المتعلم للوقوف على احتياجاته، وإلى دراسة علمية للمجتمع للتعرف على متطلباته. وهذه الأسس شاهدٌ جلي على نجاح التجربة السنغافورية، فقد اتكأت على فلسفة تربوية خاصة بها، واستندت على دراسة نفسية لأبنائها، فوفِقت لمعرفة احتياجاتهم، كما أنها وقفت على متطلبات المجتمع السنغافوري، وبذلك حدث التناغم بين تطلعاته التنموية ورؤيتها التربوية.
ولقد تباينت أساليب تطوير المنهج قديماً وحديثاً وفقًا لمفهوم المنهج، ومن أهم أساليب التطوير القديمة -التي اعتبرت أن المنهج هو المحتوى- في تطوير المناهج: مراجعة السلم التعليمي، أو مراجعة خطة الدراسة، أو تعديل الكتب المدرسية بإضافة مادة جديدة، أو حذف أخرى، أو إضافة بعض الموضوعات إلى المقررات الدراسية وحذف البعض الآخر. أما أساليب التطوير الحديثة التي أخذت بالمفهوم الشامل للمنهج: ظهور نظم تعليمية جديدة للتعليم تختلف اختلافاً جوهرياً عن النظم السابقة التقليدية، مثل: نظام الساعات المعتمدة، ونظام المدرسة الشاملة، وغير ذلك من النظم التي تأخذ بالاتجاهات الحديثة في التربية والتعليم، كمراعاة ميول المتعلمين، وجعل التقويم عملية مستمرة، وسير المتعلم في الدراسة وفق استعداداته وقدراته، وتعويد المتعلم تحمل المسئولية وإعطائه الثقة بنفسه، وتقوية حوافز المتعلمين نحو الدراسة، وإعداد المتعلمين للحياة في ضوء التحديات المتجددة الآنية والمستقبلية.
وبناءًا على ما سبق؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة قد جاءت مُتسقة مع المفهوم الحديث للمنهج، ومنسجمة مع أسس التطوير التي تُعطي أولوية لحاجات المتعلم، ومتوافقة مع أساليب تطوير المنهج الحديثة التي تضع الأولوية لميول المتعلم، وقدراته عند تطوير منهج التربية. فنظرية الذكاءات المتعددة تُعد من أفضل نظريات التعلم التي تتسق مع المفهوم الحديث لمنهج التربية، باعتبار اتفاقهما على مفهوم المنهج: أنه مجموعة الخبرات التربوية التي تنتهجها المؤسسة التعليمية -داخلها وخارجها- بغرض تنمية المتعلمين تنمية شاملة الجوانب -النفسية، والبدنية، والعقلية، والاجتماعية، والعاطفية- عبر توريثهم قيم مجتمعهم، ومعارف الراهن، وإكسابهم الأنماطً السلوكية الإيجابية. وفيما يلي استعراض علاقة الذكاءات المتعددة بعناصر المنهج، وتبيانًا لمدى الاتساق بينهما، وتوضيح لإسهاماتها في تطوير عناصر منهج التربية في مستوى التعليم العام k-12: الأهداف، والخبرة التعليمية، والمحتوى، وأساليب التقويم، إضافة إلى دور المعلم.
ثانيًا: الذكاءات المتعددة وأهداف منهج التربية (المتعلم)
يُعد المتعلم أول عناصر المنهج التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند تطوير منهج التربية، فهو المستهدف من جميع الجهود التربوية حيث تنتهي هذه الجهود عند تحقيق أهداف العملية التعليمية ممثلة في المتعلم، لذا عُدَّ المتعلم بأنه محور العملية التربوية وغايتها. ولذا ينبغي أن يكون للمتعلم شراكة في تطوير المنهج، وهذه الشراكة الفاعلة لا تتحقق إلا بمناهج دراسية تُحرك قدراته، وتُفعِّل طاقاته، وترفع من دافعيته، وتُنمي ميوله واتجاهاته ومهاراته. وفي ضوء ما سبق؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة ساهمت بقدر وافر في تحقيق أهداف المنهج ممثلة في المتعلم، فقد ساهمت في التغلب على آفة التلقي السلبي، ونمت إدراك المتعلم للعملية التعليمية باعتبارها فعلا إيجابيا إراديا يدعمه التحدي من خلال تمكينه من اكتشاف قدراته. وأن العملية التربوية عبر نظرية الذكاءات المتعددة تُثري المشاركة من خلال تفاعل اجتماعي حيوي لممارسة الأنشطة والمشروعات في بيئة التعلم بالتشارك مع الآخرين. وأن العملية التعليمية هي فعلٌ يُشارك المتعلم في تطويره بنفسه، فساهمت في تنمية الجوانب الاجتماعية لدى المتعلم، وإحساسه بالمسؤولية الشخصية والعامة. كما أن نظرية الذكاءات المتعددة قد أحدثت تحولاً جٍذريًا من نقل العملية التعليمية من التركيز على المعلم (Teacher-Centered) إلى التمركز حول المتعلم(Learner-centered) مما يُعد نقلة نوعية في المنظومة التعليمية ككل، فهي تُعين المتعلم على التعلم ذاتيًا. بالإضافة إلى امتداد فوائدها إلى حث المتعلم على مواصلة تعلمه بنفسه طوال حياته بعد مفارقة مقاعد الدراسة وحجرات الدراسة (Lifelong Learning-LLL)، إضافة إلى أنها من أكفأ نظريات التعلم التي عالجت الفروق الفردية بين المتعلمين.
ثالثًا: الذكاءات المتعددة والخبرات التربوية
تُعد الخبرات التربوية معنى مرادف للمنهج وفق المفهوم الحديث للمنهج، فمن جملة التعاريف الشائعة للمنهج، أنه: جميع الخبرات التربوية التي تهيؤها المدرسة لطلابها بقصد مساعدتهم على النمو الشامل، وتعديل سلوكهم طبقاً لفلسفتها التربوية. فالخبرة التربوية هي عملية “تأثير وتأثر” يربط الفرد بينهما، فيستفيد من ذلك في تعديل سلوكه، وتنمية قدراته، وتطوير خبراته. ويُستخلص من التعريف السابق؛ أن مشاركة المتعلم وإيجابيته ضرورية لتكوين الخبرة، والمتعلم لا ينشط إلا في وجود هدف يسعى إلى تحقيقه، مما يجعله مقبلاً على التعلم، ويجعله يستجيب لبعض المواقف دون بعضها، كما أن وجود الهدف يحدد الكيفية -الخبرة التربوية- التي يستجيب بها المتعلم لموقف دون آخر، ونظراً لوجود الفروق الفردية بين المتعلمين؛ فإن القائمين على تنفيذ المناهج مطالبون بتقديم خبرات متنوعة. وبإسقاط هذه المفاهيم على كلٍ من المدرسة السلوكية والإدراكية يتبين أن المدرسة الإدراكية نقلت العملية التربوية من وضعه الساكن –كما في المدرسة السلوكية- إلى آخر دينامي عبر سياق يحقق عملية “التأثير والتأثر“. بالإضافة إلى أن المدرسة السلوكية قد التزمت -التلقين- في تحقيق أهداف المنهج، بينما نجد أن المدرسة الإدراكية قد اهتمت بتنوع الخبرات التربوية بحيث تستجيب للفروقات الفردية بين المتعلمين، وهذا التنوع في الخبرات التربوية لا تقتصر فائدتها على اكتساب المعارف، بل تمتد إلى تنمية الاتجاهات الاجتماعية، وتنمية ميول واهتمامات المتعلمين، وتنمية مهارة التفكير وحل المشكلات.
رابعًا: الذكاءات المتعددة ومحتوى منهج التربية
في ظل الانفجار المعرفي الراهن، أصبح من العسير أن تحتوي المقررات الدراسية على كل المعارف المطلوب تعليمها للمتعلم. كما أن تغير النظرة للمعرفة واعتبارها وسيلة لبناء العقل والوجدان، وتشكيل شخصية الفرد بوجه عام، بعد أن كان استظهارها هو الهدف من العملية التربوية. بالإضافة إلى تغير النظرة لمفهوم المنهج من حيث كونه “معرفة” إلى كونه “خبرات تربوية”. كل هذه العوامل السابقة وغيرها صعبت على خبراء المناهج أن يقدموا المعارف اللازمة للمتعلمين. ومن خلال الرؤية السابقة؛ فإن خبراء المناهج -استجابة لذلك- قد بنوا مناهج ذات مضامين خاصة، واستخدموا استراتيجيات تدريسية مكافئة لها بغرض إكساب المتعلمين المعارف والقيم التي توجه السلوك نحو غايته، ومن أبرز هذه المناهج ما يسمى بمنظومة المفاهيم. و منظومة المفاهيم تضم عدداً من المفاهيم الحاكمة والمفاهيم الفرعية على عدة مستويات، ويكون تعلمها على عدة مستويات متدرجة، فمن البسيط إلى المركب، ومن المجرد إلى ما هو أكثر تجريداً، وبالتالي يمكن أن يكون المتعلم قادراً على الفهم والتفسير والتنبؤ ذاتياً، ومن ثم فإنه يكون قادراً على التعامل مع المعارف ذات العلاقة دون أن يدرسها بشكل مباشر.
إن منهج منظومة المفاهيم يُكون الاتجاهات الموجبة، ويُكسب القيم، ويُنمي المعارف، وأما بالنسبة للاتجاهات، فإنه يهتم -بما غفل عن المنهج التقليدي- بتنمية التعلم خارج إطار الكتب المدرسية المقررة، كما أنه يربط بين الجوانب العقلية والوجدانية، ومن ثم تنعكس على مستوى الأداء السلوكي للمتعلم. أما جانب المعرفة في هذا المنهج، فإنه ينمي القراءة الواعية الناقدة التي من شأنها أن يكون للمتعلم وجهة نظر خاصة به، والقدرة على اختيار البديل، والقدرة على الاستنتاج والتفسير، والمقارنة بين مصادر المعرفة المتاحة، واستخدام دوائر المعارف والأطلس والدوريات، والقدرة على قراءة الرسوم البيانية، والقدرة على قراءة الصور والأشكال، والقدرة على كتابة التقارير، وهذه المهارات وما سبقها من تكوين الاتجاهات والربط بين العقل والوجدان، تُعين الإنسان على مواصلة التعلم الذاتي بعد انتهاء جلوسه في مقاعد الدراسة، وقد أسهمت نظرية الذكاءات المتعددة في تنمية هذه القدرات.
وبناءًا على ما سُطر في مقدمة هذه المقالة من أهمية النظر إلى الفرق بين مدرستي علم النفس السلوكية والإدراكية باعتباره معيارًا في الحكم على محتوى المنهج، وعلى أساسه يتضح الفرق في النظر إليه، فإننا نخلص إلى أن المدرسة السلوكية نظرت إلى التعلم باعتباره “إكساب وتعديل السلوك”، وأن المنهج هو “المحتوى” الذي على المتعلم أن يستظهره في اختبارات تحصيلية، وقياس نتائج تحصيل تلك المعرفة كميًا. أما المدرسة الإدراكية، فقد رأت أن الهدف من التعلم هو “بناء المعرفة” عبر عمليات ذهنية من خلال إدراك المعرفة، وفهمها بغرض إنتاج معارف جديدة. ومن ثَمَّ؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة قد نظرت إلى المحتوى باعتباره معرفة يجب الإحاطة بها، وإعمال المتعلم لقدراته الذهنية -ذكاءاته- فيها بغرض إنتاج معرفة جديدة داخل وخارج جدران قاعات الدرس. بالإضافة إلى أن نظرية الذكاءات المتعددة لم تقتصر اهتماماتها على تنمية القدرات الأكاديمية (Academic Abilities) فقط، بل أولت عنايتها للتربية الشاملة عبر المجالات الأخرى، مثل: الاجتماعية والشخصية والفكرية.
خامسًا: الذكاءات المتعددة وأساليب التقويم
يمثل تقويم النظام التعليمي البداية الصحيحة والحقيقية لأي جهد تطويري، فالتقويم يكشف للقائمين على التعليم عن نقاط القوة ومكامن الضعف لدى المتعلمين. فمن خلال تقويم النظام التعليمي يُمكن التعرف على قدرة هذا النظام في: إعداد الفرد بشكل يمكنه من القيام بدور فاعل في تحقيق غاياته، وتلبية حاجات مجتمعه. فغايات المتعلمين وغيرها من أهداف النظام التعليمي، تتطلب استخدام أساليب قياس وتقويم موضوعية، يمكن من خلالها الاطمئنان إلى صحة ما يصل إليه المتعلم من نتائج عملية التقويم. وهذا يدفع مطوري المناهج إلى التأكيد على أهمية تطوير أساليب التقويم حينما يتم التفكير في تطوير أي نظام تعليمي. فمفتاح تطوير المنهج التربوي هو تطوير أساليب التقويم ووسائله. والدليل على ذلك أن محاولات التطوير تضيع سدى في ظل تركيز تقويم المتعلمين على الاختبارات التحصيلية، فالامتحانات تُقوِّم الجانب المعرفي فقط وخاصة مهارة استظهار المعلومات وقت الاختبار. وفي ضوء ما سبق، وفي ظل نظرية الذكاءات المتعددة، يتضح أنها قد ساهمت في التخلص من الآثار السلبية للاختبارات التحصيلية، والتي تقوم على أساس استرجاع المعارف في أوراق الاختبارات عبر تقدير حصاد كمي للمعرفة المكتسبة. والانتقال إلى طريقة نوعية تُركز على كيفية اكتساب المعرفة وتوظيفها، وتنمية قدرات المتعلم على تقييم تعلمه (Self Assessment) ذاتيًا باستخدام حقيبة النشاط (Portfolio) على سبيل المثال. وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة تُعد من النظريات التي استجابت لأنواع التقويم الثلاثة: المبدئي الذي ينصب على تحديد المستوى وتقدير الاحتياجات (Initial Assessment)، والمستمر الذي يصاحب العملية التعليمية (Formative Assessment)، والنهائي الذي يُحدد النتيجة النهائية للمتعلم (Summative Assessment).
سادسًا: الذكاءات المتعددة ودور المعلم
المعلم في التراث الإسلامي كيانٌ عظيم، وكذلك في التراث البشري عامة، ففي القرآن الكريم رفعة وعلوٌ لصاحب العلم، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، وفي قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَاْلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، وكذلك في السنة المطهرة، مثل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بقوله: “إن الله عز وجل لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً وميسراً.” وعليه؛ فإن نجاح منهج التربية في تحقيق أهدافه يتوقف على مدى استجابة المعلم لهذه الأهداف، ومدى قدرته على ترجمتها إلى مواقف سلوكية وخبرات تعليمية تؤدي إلى النمو الشامل المتكامل للطلاب. و قد أدى الاختلاف بين المدرسة السلوكية والإدراكية، وما صاحب ذلك من تدفق معرفي حاد، وتسارع تكنولوجي متجدد، أدى إلى اختلاف دور المعلم في المدرستين؛ السلوكية والإدراكية. لقد كانت مهمة المعلم في المدرسة السلوكية تقوم على نقل استاتيكي للمعرفة إلى المتعلمين، واختيار طرق التدريس، والقيام بتقويم المتعلمين، فكانت العملية التربوية تتركز عليه. أما في ظل المدرسة الإدراكية، فقد أصبح دوره العمل على تطوير المتعلمين -الموارد البشرية- من أجل رفع كفايتهم، وتمكينهم من مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية. إضافة إلى ما سبق؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة قد استجابت إلى ظواهر تربوية لم تكن شائعة من قبل، مثل: التدريس المنزلي (Home Schooling)؛ فإن نظرية الذكاءات المتعددة قد سهلت على الأسر تدريس أبنائهم باستخدام نظرية الذكاءات المتعددة، بالإضافة إلى يُسر استخدامها من قبل المدربين والمتخصصين في التنمية البشرية الذين لم يدرسوا في كليات التربية.
خاتمة
نخلص مما سبق إلى أن نظريات التعلم المستخدمة في المرحلة التعليمية K-12 هي نتاج مدرستين رئيسيتين: السلوكية (الأقدم)، والإدراكية (الأحدث). ولقد اتكأت المدرسة السلوكية على الجانب البيولوجي في تعديل السلوك؛ بينما استندت المدرسة الإدراكية على بناء المعارف وفق التفكير الإيجابي. وباستخدام التعبير المجازي؛ يمكن القول أن الفرق بين المدرسة السلوكية والمدرسة الإدراكية كمثل الفرق بين عمل “المخ” وعمل “العقل”. فأما “المخ”، فيقوم بإنشاء الروابط، أو العلاقات في الجهاز العصبي بين الأعصاب الداخلية التي يثيرها المنبه المثير، والأعصاب الحركية التي تنبه الغدد، أو العضلات، فتعطي بذلك استجابات محددة. وأما “العقل”؛ فإنه يقوم ببناء “المعرفة” مستخدمًا “قدرات المتعلم الذهنية”، ومن خلال “العمليات العقلية المتعددة”؛ كالإدراك، و الفهم، والاستنباط بغرض توظيفها في إنتاج معارف جديدة عبر بيئة تعلم تفاعلية بين ذات المتعلم وواقعه. وبالنظر فيما ينتجه عالم اليوم من أدبيات، يتأكد أن الحاجة إلى تفعيل وتطوير الذكاءات المتعددة في مرحلة التعليم العام K-12 من الأهمية بمكان، باعتبار أن الإحاطة بالمعرفة، وحيازتها تتعدى فائدتها حدود قاعات الدراسة، ويُمكن الإنسان من إنتاج معارف جديدة تقوده إلى إدارة الحياة، وصناعة المستقبل. بالإضافة إلى أن نظرية الذكاءات المتعددة قد ساهمت بنصيب وافر في تطوير منهج التربية، وعناصره: أهداف المنهج، ومحتوى المنهج، والخبرات التعليمية، وأساليب التقويم، إضافة إلى دور المعلم، والاستجابة لغير المتخصصين من التربويين الذين يقومون بالتدريس والتدريب.