مفاهيم

التعدد اللغوي بمقاربات متعددة

1-تقديم الاشكالية

إن الإشكالية التي ينطلق منها هذا البحث هي التساؤل عن مشروعية التعدد اللغوي الحاضر بقوة في المنهاج التربوي للتعليم الابتدائي الجديد المعمول به في المغرب، والذي تم تعميمه ابتداء  من الموسم الدراسي: 2018/2017، وطرح اسئلة مفتوحة على الباحثين والمشتغلين بالشأن التربوي، لأن مما تميز به هذا المنهاج الجديد هو اعترافه بشكل رسمي وعلني بالتعدد اللغوي وتثبيته لهذا التعدد في قطب اللغات من حيث هو أحد الأقطاب الأساسية المشكلة للمنهاج التعليمي المغربي الجديد، بحيث تدرس اللغة العربية بجانب  اللغة الفرنسية والأمازيغية.

رغم أن اللغة العربية في القطب الجديد المسمى بقطب اللغات تأخذ نسبة عالية وكبيرة تصل  إلى  النصف من مجموع الحصيص الزمني المخصص لجميع الأقطاب الأخرى، فضلا عن توصيف هذا المنهاج وإلزاميته لثلاث لغات، يلزم تعليمها ويفرض تدريسها للمتعلم بدءا من السنة الأولى ابتدائي.

والسؤال الاشكالي الذي نطرحه هو:  هل هذا التعدد والخليط اللغوي يؤثر بشكل فعلي و سلبي على  المتعلم  في تعلمه للغة العربية؟

2-التعدد اللغوي والحضور المشروع

شكل التعدد اللغوي خاصية مشتركة في جميع المجتمعات المعاصرة بحكم تعدد الثقافات واختلاف الأنساق الفكرية ووسائل الاتصال التي فرضت هذا التنوع والتعدد؛ إذ تتميز المجتمعات الحالية باستعمال لغات متعددة، ولا تشكل في هذا الموضوع المؤسسات التربوية والتعليمية أي استثناء في هذا الاستخدام، بحيث أصبحت قضية التعدد اللغوي محورا مركزيا في الاهتمامات الحالية للباحثين والمدرّسين من مجالات و حقول معرفية متعددة ومتنوعة كاللسانيات واللسانيات الاجتماعية وتعليمية اللغات –تدريسية اللغة. كما لا يمكن لأي أحد أن ينكر أو يتجاهل أهمية التعدد اللغوي وأثره في تعليم اللغات في هذا العصر.

لكن رغم هذه الاهمية فقد تباينت المواقف واختلفت  الرؤى الفلسفية وتعارضت الاختيارات اللسانية و التوجهات البيداغوجية في مقاربة التعدد اللغوي إلى درجة  يمكن القول إن المواقف والمقاربات  من  التعدد  اللغوي وصلت  إلى درجة  الاختلاف و التباين  والتقاطع بين اللسانيين والبيداغوجيين والسيكلوجيين والمتدخلين مباشرة في الشأن التربوي التعليمي…..

3-التعدد اللغوي: الدلالة -الحقيقة

يراد بالتعدد اللغوي تعايش نسقين لغوين مختلفين في التخاطب والتدريس، ومن شأن هذا التعدد أن يؤثر على مكتسبات المتعلم اللغوية كما يذهب إلى ذلك كثير من الدارسين واللسانين.

وبعبارة أخرى فإن التعدد اللغوي هو تواجد نظامين لغوين مختلفين في مجتمع أو تجمع تجمع بينهما أواصر القرابة أو علاقة نسب، والتعدد اللغوي حاضر في أغلب المجتمعات التي تتعدد أنساقها الثقافية.

وقد عرف أحد اللسانيين التعدد اللغوي فقال:” هو وجود مستويين لغويين متعايشين يعيشان جنبا إلى جنب، لكل مستوى وجود مستقل في  النوع  والبناء، الأول يسمى النوع الراقي، أو اللغة الفصحى، أما  المستوى الثاني فيسمى  النوع الدارج.

وبتعبير جامع  فإن الازدواج اللغوي هو تعايش نسقين لغوين مختلفين و فاعلين بقوة في المجتمع، الأول راق مرتبط بالمكتوب والمدون والثاني بسيط مرتبط بالشفهي.

فالتعدد اللغوي هو وضعية لغوية يتناوب فيها متكلمون من مجموعة لغوية ما على نظامين لغويين مختلفين من حيث المرجع و البناء والنسق.

وأحيانا يراد بالتعدد اللغوي الازدواجية اللغوية وهي المزاوجة في التواصل والحديث بين لغة التواصل ولغة المعيار أي بين اللغة الشفهية واللغة المكتوبة.

4-المواقف من التعدد اللغوي

اختلفت المواقف اتجاه هذا التعدد اللغوي الذي يعيشه المتعلم، ووصل إلى حد التباين  والتقاطع، لكن مع هذا يمكن التمييز بين  موقفين  أو اتجاهين اثنين:

أ‌-الاتجاه الأول

هذا الاتجاه يتحفظ  أصحابه من إدخال اللغة الثانية في التدريس في سن مبكرة لا سيما في الأقسام الأولية والابتدائية، لما لهذا الفعل  من عواقب وخيمة على شخصية المتعلم، وعلى نماء ملكته اللغوية بصفة عامة.

والسند في هذا أن التعدد اللغوي يعد إشكالية لغوية معقدة ومركبة بسبب تموقع المتعلم  بين اللغة الفصيحة وبين لغة التخاطب اليومي، أي بين اللغة التي يتعلمها واللغة التي يتخاطب ويتواصل بها سواء  في البيت أو في الشارع، مما يرهق منجزه اللغوي ويؤثر على أنشطته التواصلية وتواصليته، وعلى نماء ملكته اللغوية، وأنشطته اللغوية في الفصل الدراسي…

وهذا الاختيار تبناه الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري وفريقه اللساني، وشرحه بشكل مفصل في كتيب يحمل عنوان : اللغة والبيئة.

وقد ظل هذا الموقف حاضرا بقوة في جميع اختيارات ومواقف هذا العالم اللغوي بحيث   دافع الأستاذ الفاسي الفهري عن موقفه هذا في محاورته مع أسبوعية الأيام المغربية في سياق النقاش التي تعرفه المستجدات التربوية في المناهج والبرامج التربوية المغربية، وما حملته هذه المستجدات من صيغ وتعابير تواصلية ينتمي بعضها إلى معجم الدارجة المغربية.

كما أكد هذا التوجه الباحث اللغوي عبد العلي الودغيري عندما صرح بأن “الأصل في كل مجتمع متماسك ومنسجم أن يكون موحد اللغة، بمعنى أن تكون له حتى في حالة تعدد الألسنة التي يتعلمها لغة مشتركة…. تؤمن حسن التواصل بين كل أفراده وعناصره ومكوناته المجتمعية، ولا يلجأ إلى التعدد إلا لجلب منفعة أو درء مفسدة.

بموازاة مع هذا يؤكد أصحاب هذا الاتجاه بأن التعدد اللغوي يشكل عائقا ثقيلا، وعبئا كبيرا على المتعلم، فهو يحد من تنمية القدرات اللغوية، و المكتسبات التواصلية لمتعلم اللغة العربية بصفة عامة.

والسند التربوي والبيداغوجي الذي استند عليه أصحاب هذا الاختيار، هو كون التعدد اللغوي في التعليم له تأثير سلبي غير مرغوب فيه على المتعلم، لأن اكتساب الكلام وتنمية الملكة اللغوية للطفل إنما تتم في وسط لغوي متجانس وموحد غير متعدد ولا مختلف.

مرجعيتهم في هذا الاختيار وسندهم في هذا التوجه أن كل لغة لها قواعد خاصة صوتية تركيبية دلالية وثقافية إضافة إلى القواعد الاجتماعية الثقافية الخاصة بكل لغة.

علما أن أية لغة بصفة عامة تحمل رؤية مستخدميها للعالم، وأن تعدد اللغات يعني تعدد الرؤى للعالم مما ينعكس سلبا على تمثلات المتعلم القبلية وعلى تعلمه واكتسابه  لغة التعلم.

وبالتالي نقول إن هذا التعدد اللغوي التي يعيشه المتعلم المغربي هو المسؤول مباشرة عن التعثر والتراجع اللغوي في مكتسباته وحصيلته اللغوية، إذ المثير أن المنجز اللغوي والإنشائي والتعبيري للمتعلم المغربي يظل محل استغراب مريب وشك مستمر، وسببا في إدانة المنظومة التعليمية، والحكم عليها غيابيا بالفشل الذريع، والإخفاق الكبير.

ويمكن إجمال هذا الموقف في أن أي تعليم لغوي متعدد ينبغي أن يقوم أولا على تمكين المتعلم من اكتساب اللغة الوطنية الرسمية في سن مبكرة أولا تلافيا وتجاوزا لأثر الازدواجية اللغوية وعواقبها على النمو اللغوي والمعرفي عند هذا المتعلم، مع الشروع في  تعليم اللغات الحية في سن لاحقة ومتأخرة… ما يعني أنه لا يتم الشروع في تعلم اللغة الثانية إلا بعد “أن يكون هذا المتعلم قد تعرف على لغته وهويته وأدرك نظامها ونسقها المتحكم في تواصليتها، وفكر في ثقافة مجتمعه بصفة عامة.

كما ينبغي الاعتماد والمراهنة على الانغماس اللغوي من حيث كونه آلية واقية من حدة وفاعلية التعدد اللغوي على المتعلم في تعلمه للغة، فإذا اكتمل نظام اللغة في ذهنه، أمكنه أن يتعلم  اللغة الأجنبية بشرط  أن تتوفر الوسائل  المساعدة  والمعينة على  التعليم.

ومن أبرز هذه الوسائل والأدوات المساعدة على تعلم اللغة الثانية بعد تمكن المتعلم من اللغة الأولى اعتماد المقاربة التواصلية التي تعتمد على الجمل البسيطة مع الاستعانة والاعتماد على التواصل الشفهي بشكل أكبر، نظرا لأهمية هذه الطريقة في تنمية الرصيد المعجمي واللغوي لمتعلم اللغات بشكل عام.

بجانب هذا الإصرار والتحفظ من إدخال اللغة الثانية في التعليم الأولي والابتدائي أصر أصحاب هذا الموقف إلى ضرورة  تحيين  القواعد والمعايير اللغوية المتبعة في تدريسية اللغة العربية في المدارس الابتدائية حتى تناسب هذه القواعد مستوى المتعلم، بحيث يلزم على  واضعي البرامج التعليمية تحيين القواعد اللغوية ونقلها من  المجال العلمي إلى المجال التعلمي  من أجل ملاءمتها لمستوى المتعلم من الناحية العمرية، وحتى  لا تؤثر تلك القواعد على نماء الكفاية اللغوية للمتعلم،  أو على تحكمه  في مهاراته التواصلية الأساسية.

ب‌- الاتجاه الثاني

هذا الموقف يمثله عددا من اللسانيين فهم يرون أن اللغة هي أداة للتواصل  والتعبير عن معارف المتعلم، وعن أفكاره وتمثلاته، فالمتعلم يستعمل اللغة من أجل الفهم والانفتاح والتواصل، ويرون  في نفس الوقت أن التعدد اللغوي لا يشكل عبئا على المتعلم… ما دام التعدد اللغوي يشكل غنى ثقافيا بالنسبة لأي مجتمع، ولأن اللغة تعكس الحياة بجميع تفاصيلها، وتكشف عن عقائد المجتمع وتقاليده والقيم التي يحملها والعلاقات والتفاعلات التي يعيشها ويمر منها، فاللغة بتعبير محمد الاراغي ديوان ثقافي … فأصحاب هذا الموقف يعتبرون الازدواجية أو التعدد اللغوي ظاهرة طبيعية تعيشها جميع المجتمعات، و لا تؤثر سلبا على تعلم اللغة العربية الفصحى… بالتالي فإن التعدد اللغوي لا يمكن الاستغناء عنه مهما كانت الظروف والأحوال التي يعيشها ويمر منها المجتمع.

من جهة أخرى فإن اللغة تحتوي على إمكانات متعددة في التعبير والتواصل والتبليغ والأداء لإيصال الرسالة الى المتلقي، ولها مستويات متعددة في التخاطب والأداء، فهي ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور المجتمع ولا تقبل الجمود. فهي لا تشكل عائقا أو عبئا أمام  المتعلم في التعلم والاكتساب والتحصيل والمعرفة.

اللغة الأم عامل رئيسي للإنسان، فقد دأب على المحافظة على لغته الأم بكل الوسائل، لأنها اللغة الصانعة لهوية الفرد المنتمي إليها.

كما أن التعدد اللغوي من جهة أخرى يحقق بالنسبة إلى الفرد آفاقا أوسع في التصور و في التمثل والرؤية، ما يدل على أن اللغة الواحدة عاجزة عن تحقيقه أو الوصول إليه.

وهذا الاتجاه راهن عليه أستاذنا الباحث أحمد اوزي عندما قال بصريح العبارة:” فبالمقابل تباينت المواقف واختلفت الرؤى الفلسفية وتعارضت الاختيارات اللسانية والتوجهات البيداغوجية في مقاربة هذا التعدد اللغوي إلى درجة يمكن القول إن المواقف من التعدد اللغوي وصلت إلى درجة الاختلاف والتباين والتقاطع بين اللسانين والبيداغوجيين.

لكن التوجه اليوم الذي تسير فيه البحوث التربوية وتعززه الدراسات اللسانية السيكلوجية تؤكد أنه بإمكان المتعلم أن يكتسب أكثر من لغة في مرحلة الطفولة، وأن نظرية التزاحم اللغوي لم تعد مسايرة للتحولات الكبيرة التي تشهدها الساحة العلمية في علم النفس، ويعرفها البحث العلمي في العلوم السيكلوجية واللسانية لاسيما ذات المنحى المعرفي التجريبي.

فليس من المنطقي القيام بالتفاضل اللغوي بين اللغات، مادام التعدد اللغوي يشكل غنى ثقافيا لجميع المجتمعات التي تعيشه وتحيى فيه، فكل المجتمعات تعيشه، فهو يعكس   تعدد الآفاق وتنوع التصورات، واختلاف الرؤى.

وقد استثمر أصحاب هذا الموقف المستجدات والبحوث التي جاءت بها اللسانيات الحديثة لاسيما اللسانيات التي تشتغل على تعليم اللغات وتعلمها ومعالجة القضايا التي ترتبط بها.

فالدراسات السيكولسانية للغة التي تشكل المجال الوسع والأرحب في الدراسات اللغوية المعاصرة، كشفت أن عملية تدريس اللغات ينبغي ان تنفتح على المستجدات والبحوث السيكلوجية لحل المشاكل التي يواجها المتعلم في تعلم واكتسابه للغة بصفة عامة.

كما اعتمد أصحاب هذا الاتجاه على ما جاءت به نظرية اللسانيات المعرفية من بحوث تخص تعلم اللغات بصفة عامة، إذ أكدت هذه النظرية أن الفرد كلما تقدّم في العمر، قلّتْ قدرتُهُ على تعلّم اللّغة واكتسابها انطلاقا من نظريةThe less is more ، أي الأقل هو الأكثر، وأن الطفل بمقدوره أن يكتسب ويتعلم  أكثر من لغة في مرحلة الطفولة.

و قد استند أصحاب هذا الاتجاه على اللسانيين العرفانيين وما أنجزوه من بحوث ودراسات اتجهت بالبحث في تعلّم وتعليم اللغة وبالأخص اللسانية ايليزابيث بايتس  Bâte Elizabeth -1947-2003- التي أقدمت على الاشتغال على مشاكل تعلّم اللّغة، وبيّنت تأثيرَ معارف الطفلِ اللّسانية الأولية  في اكتسابِه وتعلمه، ومدى التأثير الذي  تمارسه اللغة الأولى على المتعلم بصفة عامة.

كما دعا أصحاب هذا الاتجاه الى الاستفادة من الطرائق والآليات التي يقترحها النحو لأحمد المتوكل في تدريسية اللغة العربية في الأقسام الأولية بتفعيل المهارات الأولية للمتعلم في تعلمه اللغة العربية الفصيحة في السنوات الأولية من تعليمه.

بموازاة مع هذا، صرح أصحاب هذا الاتجاه علنا بأنهم لا يدعون إلى إحلال العامية محل الفصحى في تعليم اللغة العربية للمراحل الأولية والابتدائية لكن أظهروا أنه من الناحية اللسانية تعتبر العامية من  أحد أوجه اللغة العربية الفصيحة.

ما يعني أنه بالإمكان استثمار المكتسبات اللغوية الأولية والقبلية للمتعلم في تعليمه اللغة العربية، وأن الرهان في المستقبل يجب أن يتجه إلى تعليم اللغة العربية الفصيحة.

5-استنتاج وتركيب

إن الجواب على هذا الإشكال التربوي المركب المتعلق بالتعدد اللغوي ومضاعفاته على المتعلم المغربي رهين بمدى الاطلاع على ما استجد من بحوث ودراسات ميدانية تدخلية في اللسانيات التعليمية، لاسيما البحوث التي أعدت خصيصا لهذا الموضوع المتعلق بالتعدد اللغوي ومضاعفاته على المتعلم المغربي.

كما ينبغي ضرورة أن تتجه البحوث التي ينجزها الأساتذة والمفتشون المتدربون في مراكز التكوين إلى مثل هذه المواضيع الساخنة، والابتعاد قدر الإمكان عن اجترار وتكرار مواضيع تكرر البحث فيها أكثر من مرة، وهذا لا يتيسر إلا بالانفتاح على اللسانيات الحديثة بجميع مدارسها، وعلى بحوثها لأن بإمكانها حل مختلف المشاكل العالقة في الاستعمالات اللغوية التي يطرحها درس اللغة العربية.

لقد اقتنع علماء التربية والتدريس والمشتغلون على تعليمية اللغة العربية بضرورة الانفتاح على الدراسات اللسانية الجديدة قصد توظيف واستثمار نتائجها اللسانية والنمائية لصياغة البرامج التي بواسطتها يتم ايجاد حلول لظاهرة التعدد اللغوي … فلا مناص من الاستثمار  في درس اللغة العربية للإجابة على هذه الأسئلة المركبة.

إغلاق