اخبار التعليم
المدرسة العربية والخلل التربوي
يعيش العرب والمسلمون اليوم في موقع حضاري لا يحسدون عليه. فهم فضلاً عن تأخرهم المادي الملحوظ، فإن كثيراً منهم –للأسف- يعانون من مشكلات العنف والاقتتال الطائفي والمذهبي والعشائري ومؤخراً الرياضي!! هذا الواقع الذي نعايشه اليوم يتطلب إعادة النظر في التربية التي يتلقاها أبناؤنا في المؤسسات التربوية في المراحل المحتلفة.
وإعادة النظر تعني مراجعة فلسفاتنا التربوية ومناهج التعليم وطرائق التدريس وطرائق إعداد المعلمين واللوائح التي تحكم تلك المؤسسات. والأمم المتقدمة لا تترك المشكلات تستفحل حتى تستعصي على الحل. فالدولة ممثلة بمؤسساتها البحثية و العلمية والتربوية تستنفر جهودها للبحث عن حل لتلك المشكلات. صحيح أن أسباب المشكلات تختلف من مجتمع لآخر تبعاً لنظرته وأسلوبه في الحياة ولكن مع ذلك فإن هناك قاسما مشتركاً واضحاً بين الأمم شرقيها وغربيها.
ورغم أن الكثير من الفلسفات التربوية في البلاد العربية والإسلامية تعطي التربية الروحية أهمية في التعليم، إلا أن تلك التربية لم تثمر كثيراً في بناء الإنسان المنتج الفاعل ولا الإنسان القادر على حل مشكلاته بطريقه سلمية بعيداً عن العنف. وفي اعتقادنا أن السبب وراء ذلك هو عدم أخذ أمر التربية الروحية مأخذ الجد. ولذلك سنعرض هنا رؤية تربوية مؤسسة على القرآن الكريم لعلها تصب في مجرى الجهود المبذولة لرفع مستوى التربية.
يبقى القرآن الكريم كتاب الله العزيز مصدراً لا ينضب للمعرفة و دليلاً هادياً للسلوك القويم. (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم- المائدة 14-15). وإذ نعيش نحن المسلمون اليوم أزمة حقيقية في حياتنا متمثلة في الإعراض عن الحياة الجادة التي تصل بنا إلى مكانة محترمة بين الأمم، فإن المرء ليعجب أيضاً من إعراض الكثير من التربويين عن كتاب الله سبحانه وتعالى إعراضاً حقيقياً عن القراءة بالكلية عند البعض وإعراضاً عند الكثيرين عن القراءة الواعية المتدبرة مع أن الأمر واضح كل الوضوح.(ولقد يسرنا القرآ، للذكر، فهل من مدكر” القمر: 17)، وقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها: محمد:24). فالقراءة المعرفية الجادة التي تثري العقل الإنساني وتثير فيه الرغبة الحقيقية في البحث عن الحقيقية في مناخ من الحرية العقلية والفكرية لا تتوفر في غيره.
القرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى للإنسان ليعيش على هذه الأرض المسخرة له، لا يمكن أن يكون مجرد كتاب يتلوه المسلم ليتبرك به أو ليأخذ الأجر على تلاوته فقط. حيث نجد تسابقاً محموداً بين المسلمين شيباً وشباناً على قراءته في مواسم معينة خصوصاً في شهر رمضان المبارك. إلا أن هذا السباق على هذه القراءة الحرفية السريعة والتي تأتي بقصد ختمه لا تثمر في الغالب تطوير منهج حياتي مسلكي يقوم على تغيير كامل أو شبه كامل في السلوك والممارسات. بل إننا نرى من السلوكيات و الممارسات في مثل هذا الموسم ما يجعلنا نعجب من هذا الحال حتى إن المرء ليخال أن القرآن الكريم تحول من منهج حياتي تغييري كامل إلى مجرد كلمات تنتهي آثارها بخروجها من فم القارئ.
لقد نزل القرآن الكريم ليحيل الحياة البشرية الساكنة الآسنة الموغلة في البعد عن القيم الرفيعة الأخلاق النبيلة، إلى حياة يسعد ببنائها الإنسان ويرتفع بذلك البنيان فيعيش سعيداً متآلفاً ومنسجماً مع الكون و أخيه الإنسان، عندها تصبح الحياة جميلة ذات معنى تقود إلى حياة أخروية أسعد وأبقى.
ولا يمكن لنا أن نتخيل القرآن الكريم الذي نزل على النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فجعل الحياة غير الحياة و البشر غير البشر و النظم غير النظم و القيم غير القيم ألا يكون هو نفسه القرآن الذي يقرؤه مسلمو اليوم آناء الليل وأطراف النهار.
إن القرآن الكريم لم يتغير ولم يُبدل و لم تصل إليه اليد الشيطانية لتنحرف به عن هدفه المرسوم له من أول يوم نزل“إن هذ القرآن يهدي للتي هي أقوم” (الإسراء:9). بل بقي وسيبقى دوماً كتاب هداية أولاً وآخراً.
هذا الكتاب الكريم المحفوظ المنزل ليقود البشرية إلى حياة سعيدة على الأرض، يحتاج منا معشر التربويين والمعلمين أن ننظر فيه أكثر من غيرنا. فهو إذ تنزل ليهدي ويغير فإنه منسجم تمام الانسجام مع هدفنا الأسمى من التربية والتعليم ألا وهو التغييروالهداية وبناء الإنسان الصالح الذي يعرف ربه ونفسه وحقوقه عليه والواجبات المترتبة تجاه ربه ونفسه ومجتمعه والبشرية من وراء ذلك.
لقد أصبح التعليم اليوم منصباً على بناء المتعلم الذي يتقن مهارات كثيرة تؤهله ليعمل. أي ليصبح إنساناً منتجاً نافعاً لنفسه ومجتمعه. وهو هدف من أهداف القرآن الكريم ليكون الإنسان مؤهلاً للقيام بمهمة الاستخلاف التي أنيطت به لكن لا يمكن أن يتحقق الاستخلاف وعمارة الأرض بالمهارات الوظيفية وحدها التي لا تبني الإنسان المؤتمن على هذه المهمة.
وإذا كان البعض قد أعرض عن القرآن الكريم بسبب سوء فهم أو تأثر بمنهج بشري وضعي فهذا شأنه ولكن ليس من حق أحد مهما كان شأنه أن يحصر القرآن الكريم كتاب الهداية البشرية في مجرد كلمات لا تؤدي وظيفتها في التغيير والإصلاح.
القرآن الكريم أكبر وأعظم من كل شيء. فبه يفرح المؤمنون وهو كما قال ربنا سبحانه ” قل بفضل الله و برحمته، فبذلك فليفرحوا هوخير مما يجمعون” يونس 58. فإذا كان الرب سبحانه قد جعله كذلك فمن يجرؤ على التقليل من شأنه ويحصره في زاوية صغيرة من زوايا الحياة.
إن التربية والتعليم اليوم بحاجة ماسة إلى هذا القرآن العظيم لتكون نافعة ومثمرة. وهذه الحاجة الماسة ليست متوهمة أو متخيلة، بل إنها واقع نراه ونلمسه ونعيشه يوماً بيوم. لقد أثمرت التربية الداروينية الحديثة إنساناً – في الغالب- أنانياً همه نفسه لاغير. وقد رأينا وعايشنا وعشنا –خصوصا هذه الأيام- ثمرات تلك التربية متمثلة في ظهور طبقة من المتنفذين في حياتنا السياسة والاقتصادية والاجتماعية لا هم لها إلا تكديس ثرواتها وتكثير أموالها على حساب شقاء الآخر وتعاسته.
إن الأزمة الاقتصادية التي نعيشها اليوم ليس مردها قلة الموارد أو نضوبها وإنما تحكم فئة قليلة ممن فشلت التربية الحديثة في أن تجعلهم بشراً يحسون بما يحس به الناس من حولهم. فتلاعبوا بمقدرات البشر وتفننوا في الخديعة وابتكروا من الأساليب اللاإنسانية الكثير من أجل أنفسهم.
ولو كان هؤلاء قد عرفوا أن الأخلاق ليست مجرد كراسات يحفظونها ويتقدمون بها لاختبار في نهاية الفصل أو العام الدراسي، وأن المدارس والجامعات التي تخرجوا فيها – وهي أعظم جامعات العالم- كانت تؤهلهم ليكونوا بشراً قبل أن يكونوا تجاراً ومدراء ومضاربين، لما وصل الحال إلى مانرى ونسمع ونعايش.
إن الفرصة مواتية اليوم لبني البشر ليروا الحقيقة كاملة غير مزيفة ولا منقوصة. ليروا بأم أعينهم أن التربية الحديثة التي تقدم المهارات العملية على الأخلاق والقيم والمثل الرفيعة لايمكن بحال أن تسعدهم أو أن تحقق لهم قدراً من الطمأنينة المنشودة.
لقد صحا ملايين البشر من كل القارات ليجدوا جهد عمرهم قد تبخر في ساعات قلائل. لقد خسر العالم بسبب جشع هؤلاء المرابين والمضاربين الأنانيين تريلوناً من الدولارات وهو مبلغ لا يمكن بحال أن يقال إنه قليل.
لقد أثبتت هذه الفاجعة الاقتصادية أمراً مهماً وهو أن الحياة الإنسانية اليوم متشابكة يتأثر فيها الكل بالكل فينام الرجل في طوكيو ودبي على وقع ما سيحصل في نيويورك أو لندن.
وهو أمر يؤكد أن الأزمة الإنسانية هي أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، أي أنها أزمة تربوية وليست أزمة قدرات أو كفايات أو مهارات مهنية. ولعل من المهم أن نشير إلى أن ما نشهده اليوم من مظاهر للعنف الأهلي والإرهاب الدولي مرده في الغالب نقص في التربية الإيجابية التي تمثل المهمة الأساسية للمدرسة.
فالمدرسة هي الحضن الذي يتلقى الطالب طفلاً ومراهقاً وشاباً ويمضي بين أسوارها الساعات الكثيرة. وإذا فقدت المدرسة البوصلة الموصلة إلى الهدف الحقيقي من التربية من يقوم بهذا الدور إذن.
وما نقصده من دور تربوي للمدرسة لا نعني به أن تتحول المدرسة إلى مركز للوعظ والإرشاد كما قد يتوهم البعض، ولكن أن تكون مكاناً يتعلم فيه الطالب المهارات الكفيلة بجعله إنساناً قادراً على التفاعل مع الآخر بتمكينه من مهارات الحوار واستخدام الوسائل السلمية لفض النزاعات والخلافات التي قد تقع. ولا يتحقق الهدف التربوي إلا من خلال عمل منهجي منظم تقوم عليه المدرسة. والمنهجية تعني أن يتم تدريب المعلمين وتطوير قدراتهم على التعامل مع المشكلات وحلها بعيداً عن العنف والتعنيف. كذلك وضع منهج للتربية السلمية المستندة إلى الأصول الإسلامية للتربية والتي تجعل احترام الفرد وحفظ كرامته هدفاً واضحاً.
وقد يتساءل البعض ماعلاقة التربية الروحية بمهارات الحوار والتنشئة على احترام الآخر؟
إن الإنسان المتعلق بقيم ربانية والذي نشأ على أخلاق القرآن الكريم لابد وأن يطور حساسية تجاه الإساءة للآخرين. فالمشاعر النبيلة والقيم الرفيعة فضلاً عن إدراك قيمة محبة الله سبحانه وتعالى للإنسان الرفيق العطوف و الأجر الذي يناله في الدنيا و الآخرة من الله سبحانه وتعالى تجعله واعياً بردود أفعاله وواعياً بسلوكه ولا يترك لمشاعر الغضب أن تسيطر على أفعاله وسلوكياته. فالتعقل في رد الفعل منشؤه و أساسه تربية روحية وأخلاقية عالية.
هذا هو الإنسان القرآني التربية الذي ننشد وهذا هو الفرد الذي نتطلع إلى أن يكون وسيلتنا إلى تقدم حقيقي ورفعة حضارية.