اخبار التعليم
نحو بناء معرفة مركبة في المدرسة
لعل السؤال الذي يؤرق الديداكتيكي هو: كيف أدرس مادة ما؟؟ ما دام الديداكتيك موضوعه “الدراسة العلمية لطرق التدريس وتقنياته ولأشكال تنظيم مواقف التعلم التي يخضع لها التلميذ في المؤسسة التعليمية…”[1]. أما في هذا المقال نعكس السؤال، فعوض أن نتساءل التساؤل المعتاد كيف أدرس مادة ما؟ لنتساءل: كيف أدرس معرفة ما أو ظاهرة معينة من خلال مواد التدريس المبرمجة في منظومة التربية والتكوين؟ حيث تصبح المواد الدراسية ومضامينها أجزاء يتم عبرها استهداف المعرفة الكلية المركبة. وباعتبار أن من بين غايات التعلم: إكساب المتعلم فكرا نقديا يجنبه التلقي السلبي للمعارف والمعلومات دون مناقشتها أو نقدها، ولكي يتحلى المتعلم بهذه الروح النقدية، لابد أن تكون معرفته شمولية متكاملة حول الظواهر والمواضيع، وليس مجرد معارف متفرقة هنا وهناك يصعب إدراك مغزاها والجدوى منها. وذلك بنفس التصور الذي يقوم عليه بناء كفاية ما (الكل) باعتبارها غاية، من خلال مجموعة من الأهداف التعلمية (الأجزاء)، باعتبارها وسائل. إلا أنه قبل ذلك لابد من ربط هذا التوجه بدواعيه.
تتحدث العديد من الدراسات والكتابات الفلسفية عن تشابه مهم بين الأطفال والفلاسفة، من حيث نظرتهم للعالم، وعدم استطاعتهم التعود عليه، وبدهشتهم منه. و كما يقول جوستاين غاردر: “يظل العالم بالنسبة لهم شيئا غريبا ومُحيرا. وهكذا يمتلك الفلاسفة والأطفال صفة كبيرة مشتركة”[2]. ومن بين مظاهر هذا التشابه، طرح أسئلة غاية في الأهمية مرتبطة بالماهية والوجود والكون، وغيرها من الأسئلة التي تحاول موقعة الفرد في سياقه الإنسان الوجودي والكوني. وقد نقوم بطرح نفس السؤال الذي بدأ به ج.جاردر تعليمه الفلسفة للطفلة “صوفي” في روايته “عالم صوفي” وهو: من أنت؟ على متخرجي أنظمة تربوية مختلفة وعلى أنفسنا، فيُكشف لنا عن أجوبة، تشخص محدودية المدرسة في تزويد الأفراد بمعارف شاملة ومتكاملة حول قضايا جوهرية وأساسية للفرد الإنسان، واستمرار تركيزها على معارف متنوعة كالقراءة والكتابة والحساب منفصلة غارقة في علميتها ومعارفها الخاصة (التخصصات)، وتفتقد للربط والوصل بينها، حتى تشكل فهما مركبا شاملا للظواهر والمفاهيم والأحداث. وهذا أمر واقع، قد نتحقق منه بسؤال أنفسنا من نحن؟ أو من هو الإنسان؟ للتأكد من صحة القول، فنجد أنفسنا نعطي أجوبة عامة وغير مضبوطة، أوقد نتبنى إجابات تحيل إلى مجال تخصصاتنا أو اهتماماتنا. فكيف إذن وصلنا إلى هذا الواقع وكيف يمكن تغييره؟
1- من الفكر الموسوعي إلى الفكر التخصصي
عرف الفكر الإنسان تحولات مهمة وعلى أصعدة متنوعة، ومن بين أهم محطات هذا التحول ما قام به الفيلسوف الفرنسي ديكارت من خلال الفصل الذي وضعه بين “مجال الذات المخصص للفلسفة والتأمل الذاتي، ومجال الشيء داخل الفضاء الممتد وهو مجال المعرفة العلمية والقياس والدقة”[3] هذا الفصل بين الفلسفة والعلم، أو بين “الذات المفكرة (ego-cogitans) والشيء الممدود (res-extensa)”[4] سمح بتقدم كبير على صعيد المعرفة العلمية والفكر بشكل عام. كما من بين المحطات الأساسية أيضا في هذا التحول، ظهور الفلسفة الوضعية مع الفرنسي أوغست كونت، الذي ميز بين ثلاثة أشكال من المعارف، إذ يعتبر أن أرقى درجة المعرفة الإنسانة بلوغها المرحلة الوضعية، والتي يصلها أي فرع من فروع المعرفة “عندما يتجاوز المرحلة اللاهوتية، حيث يكون تفسير الظواهر بالقوى الغيبية والمرحلة الميتافيزيقية حيث يكون التفسير بالكيانات المجردة، ليصل إلى الاهتمام بالعلاقات الثابتة التي تربط الظواهر بعضها بالبعض الآخر”[5]، وبوصول أي حقل معرفي للمرحلة الوضعية تصبح إمكانية تطوره أكبر وأسرع.
ساهمت هاتان المحطتان بشكل كبير في تطور العلوم، وسمحت بانفصال فروع معرفية عن أخرى، وظهور فروع و تخصصات معرفية جديدة، ولا زالت تبرز أخرى إلى اليوم. وانتشار و تزايد التخصصات المعرفية لابد أن يكون له أثر إيجابي على العلم وعلى الإنسان بصفة خاصة، حيث ساهم في “النمو السريع للمعارف الإنسانة”[6]. ولن نسهب هنا في ذكر حسنات العلم و منافعه على الإنسان وعلى قدرته الإحاطة بمختلف مناحي الحياة، وعلى سلبياته كمساهمته في تطوير وسائل الاقتتال والحروب… فهذا الأمر لا يمكن أن ينكره عاقل. كما أن ظهور التخصصات المعرفية وتعددها، رافقته بعض النقاط التي جعلت المعرفة الإنسانة مجزأة بين المهتمين والعلماء والباحثين، حيث أدت” إلى وجود فئات من العلماء تهتم كل منها بالميدان العلمي الخاص بها دون أن تعير ما يكفي من الاهتمام للنتائج العلمية في ميادين علمية أخرى، أو لعلاقة نتائج علمها الخاص بالنتائج العلمية في باقي الميادين”[7]. كما المعرفة الإنسانة الشمولية أصبحت تتعذر عند الطرف الواحد، وألزمت الاشتغال بمكاتب أبحاث وفرق تتألف من متخصصين كل حسب ميدان تخصصه واهتمامه. هؤلاء المتخصصين هم من أسماهم إدغار موران “بالمتخصصين الجهلاء”[8] لجهلهم للبنية الكلية المركبة للموضوع المدروس، واقتصار معارفهم على مهمتهم الجزئية المنبثقة من التخصص. و يمكن تصورهم بنفس المشهد الكوميدي الذي جسده شارلي شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة وإن اختلف السياق والموضوع.
تطور واتساع مجال المعارف والتخصصات جعل إمكانية اكتساب المعرفة في شكلها الكلي والمركب من التحديات الصعب تحققها إن لم نقل المستحيلة. وبالتالي أصبح الاشتغال في فرق مشكلة من متخصصين أمرا يفرض نفسه بفضل التطور السريع والمتزايد للمعارف الإنسانية. لكنه إذا كان كذلك حينما نتحدث عن مستويات عليا معمقة وأكاديمية تتطلب معارف دقيقة، ولن تصل غاياتها إلا بتدخل المختصين، فإن الأمر يختلف حين يتعلق الأمر بمعارف علمية عامة مرتبطة بالإنسان وبهويته ووجوده وفضاء عيشه ومعتقداته… وهو ما يتطلب توفر حد معين من المعارف العلمية القادرة على وضع الفرد في موقع قادر على تفسير وإعطاء معنى لوجوده ولمحيطه، متجاوزا التفسير اللاهوتي والميتافيزيقي. هذا الدور يجب أن تتحمل فيه المدرسة المسؤولية الرئيسية، خاصة خلال مرحلة ما قبل التوجه نحو التخصصات، أي خلال التعليم العام المشترك. فكيف يمكن للمدرسة أن تضطلع بهذا الدور؟
2- وضعية المعرفة في المدرسة المغربية
يقول إدغار موران ” إن نمط التفكير أو المعرفة المجزأة، المقسم إلى خانات، المنحبس في اختصاص واحد، الساعي إلى الكمية، إنما يسوقنا إلى فهم أعمى باعتبار أن في الإنسان ذاته استعدادٌ طبيعي للربط بين المعارف”[9] . و من خلال هذا القول يمكن أن نستخرج عنصرين مهمين، الأول الفهم المشوه وغير المكتمل الناتج عن المعرفة المجزأة، والثاني وجود استعداد طبيعي عند الإنسان للقيام بالربط بين الأجزاء وإدراك الشكل الكلي للمعرفة. و لما ننظر إلى المناهج المغربية، نجدها تقدم المعارف في شكل مواد دراسية (اللغة، الرياضيات، الفيزياء، الجغرافيا…). مما يعني أنها تقدم المعارف بشكل مختلف عما يتطلبه الاستعداد الطبيعي للفرد الإنسان حينما تقدم المعرفة مجزأة ومنظمة في برامج دراسية، كل واحدة تعالج مضامينها الخاصة. لكنها في نفس الآن لا يمكنها اعتماد التدريس الموسوعي لأنه لم يعد ممكنا في ظل تنامي المعارف كما أشرنا سابقا، وفي ظل تطور علوم التربية وأبحاث علم النفس، التي لا تنصح بهذا الشكل من التعليم والتعلم. فما السبيل للجمع بين تقديم المعارف مجزأة في برامج ومواد دراسية وفي نفس الآن اكتساب معرفة مركبة؟ للجواب عن هذا التساؤل سوف نعمل على دراسة نموذج المدرسة المغربية.
تنتظم المعارف في المدرسة المغربية على شكل مواد تخصصية، لكل مادة مفاهيمها ومواضيعها، منها ما ينتظم في شكل مجالات أو وحدات معرفية، ومنها ما بُرمج في شكل دروس. ومن خلال تشخيصنا لوضعية المعارف في المناهج المغربية تبين أنها:
- تعتمد نظام المجالات المعرفية في بعض المواد، مما يعني أن هناك وعي بأهمية التدريس وفق نموذج المجالات، لكنه لم يعمم في جميع المواد. كما أن امتداد مجال معين لا يشمل جميع المواد، فعلى سبيل المثال المجالات التي تدرس في مادة اللغة العربية يمتد على مكونات المادة، لكنه يغيب في المواد الأخرى.
- تعاني من ضعف التنسيق بين المواد لاختيار مضامين تكمل بعضها البعض الآخر، ما يجعلها مجزأة ومتفرقة، يصعب على المتعلم تأليفها وإقامة الربط بين مكوناتها، ليس لعدم قدرته على ذلك، وإنما وكما يقول إدغار موران “إن الأطفال، خلافا لما نظن، يستعملون بكيفية تلقائية استعداداتهم التأليفية واستعداداتهم التحليلية. وهم يشعرون بكيفية تلقائية أيضا بالصلات والروابط ونحن هم الذين يقدمون لهم أنماط التقسيم والفصل ويعلمونهم إنشاء كيانات منفصلة، مغلقة”[10].
3- تصور لمساهمة المدرسة في بناء فكر مركب
قبل طرح المعالم الكبرى للتصور الذي نعتبر أن بإمكانه بناء معرفة شمولية مركبة عند الناشئة في مراحل التعليم العام، أو ما قبل التخصص. لابد أن نشير إلى كونه يحتاج إلى متخصصين من مختلف المواد، يقومون بطرح التدرج الذي يمكن أن يسير عليه مجال معين بالنسبة لكل مادة بمراعاة طبيعة المادة ونتائج علم النفس التربوي لكي يكون تصورا كاملا يمكن تطبيقه على المناهج الدراسية. أما ما سنقوم به فهو وضع الملمح الرئيسي أو المبدأ الذي يجب أن يقوم عليه التصور. والذي يتحدد في نقطة واحدة محورية وهي خلق التقائية بين مضامين المواد المدرسة، الالتقائية المرهونة بالتدريس عبر مجالات معرفية موحدة ومتزامنة، حيث يدرس المتعلم نفس المجال في نفس المستوى ونفس الأُسدس ونفس المرحلة. ويمكن توضيح هذا التصور عبر ما يلي:
مجال1 : نفترض أن المجال الأول الذي سيدرس للتلميذ في مستوى معين هو “الإنسان”
مجال 2: نفترض أن المجال الأول الذي سيدرس للتلميذ في مستوى معين هو “البيئة”
المجال 3:نفترض أن المجال الأول الذي سيدرس للتلميذ في مستوى معين هو “العالم”
المجالات التي تطرقنا إليها نعتبرها أساسية لتكوين معرفة المتعلم حول ذاته والمحيط. قد يبدأ تدريسها منذ السنة الأولى الابتدائية بعد أن تتعرض للنقل الديداكتيكي الملائم لهذا المستوى، وقد يستمر تدريسها إلى غاية نهاية التعليم الثانوي وفق التدرج والتسلسل المنطقي من البسيط إلى المركب. إلا أن تطبيق هذا النموذج يشترط بعض النقاط الأساسية التالية:
- تدريس نفس المجالات خلال كل مستوى، تتناول كل مادة الموضوع المدرس من الجانب الخاص بها، مراعية بطبيعة الحال التدرج المنطقي الذي تفرضه مضامينها، لتحديد المناسب تدريسه في كل سنة، بمراعاة نتائج علوم نفس النمو ونظريات التعلم.
- وضع برنامج كل مادة مدرسة يستدعي فرقا ملمة بالمادة المعرفية والديداكتيك الخاص بها، وبالجوانب التربوية لفعل التعليم والتعلم. كما أن الجوانب التي تعالجها كل مادة داخل مجال معين يمكن أن تضاف إليها مواد أخرى تعالج الجوانب الخاصة بها، وما تم ذكره فقط أمثلة توضيحية للتصور المقترح.
على سبيل الختم
من أجل بناء معرفة مركبة ما لدى المتعلم، لابد من الاستفادة من نتائج مختلف العلوم التي تعتبر الطفل والتعلم وطرق التدريس والمعرفة موضوعًا لها كعلوم التربية والديداكتيك والابستمولوجيا. كما يفرض علينا إعادة النظر في أنماط المعرفة المدرسية وترتيبها حسب الأولويات، في ظل مجتمع لازالت فيه نسب الهدر المدرسي مرتفعة. أولويات تضع إكساب معرفة علمية حول الإنسان وماهيته وحول وسطه المحلي والكوني وغيرها من المواضيع التي تجعل تفسير الظواهر يبتعد عن التفسير اللاهوتي والميتافيزيقي في المقام الأول، علما أن المواضيع المدرسة لن تُمكِّنَ المتعلم من التفسير العلمي والتفكير النقدي إذا لم تتم الإحاطة بها من جميع النواحي، و يتمثلها المتعلم كشكل كلي تتكامل المواد في تشكيله.
تعليم جديد