تربية

وسطية التربية بين التدليل والقسوة

من المبادئ الهامة في عملية التربية: مبدأ الوسطية، فلا تكون التربية مبنية على الصرامة والقسوة والإرغام وتجاهل شخصية الفرد، وبالمقابل لا تبنى على التساهل والتسامح والرفاهية والتهاون، فالصرامة والشدة في التربية تنشئ أطفالاً يعانون من المعوقات النفسية، والاضطرابات السلوكية، كالانطوائية والخجل، ويجد وراءه كل ترسبات الاضطهاد الطفولي للعيادات النفسية، والتساهل المفرط يؤدي إلى تجرد الطفل من كل الضوابط والحدود والقيم، وينشئ جيلاً عاجزاً عن تحمّل المسؤولية. فالوسطية في كل شيء منهج رباني، ومطلب إنساني قال تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ”(البقرة 143)، والمتأمل لنصوص القرآن الكريم والسنَّة النبوية يجد الجمع بين أسلوب الترغيب والترهيب والتبشير والإنذار والوعد والوعيد؛ مما يؤكّد أن منهج الوسطية منهج متكامل، وهو منهج حياة، كيف لا؟ والوسطية تعنى العدل والتوازن والحكمة، ووضع الأمور في مواضعها.

الإفراط في التدليل خطر على الطفل. فالإفراط في التدليل: يصنع من الطفل طاغية صغيراً. فتعويد الطفل على إشباع حاجاته، حتى الحاجات الثانوية والتافهة خطأ. نعم هو طفل، وله احتياجاته الأساسية، ولابد من وجود شيء من التدليل والحنان وتحقيق رغباته؛ لكن بقدر متوسط، فتشبع احتياجاته الأساسية: كالأكل والشرب والملابس إلى آخره، تشبع حاجاته الأساسية دون تدليل، وإلا فالطفل سوف تحوله أنت إلى طاغية صغير، ويصبح ملكاً غير متوج، والتاج ليس على رأسه، إنما على رأس الأب، لكن في الحقيقة هو الآمر الناهي المتحكم في الآخرين.

في الجانب الآخر: الإفراط في القسوة والحرمان أيضاً خطير، الأب يريد أن يحول البيت إلى ثكنة عسكرية، أوامر ونواهٍ، ضابط وجندي، وكأنه في الجيش أو في الشرطة! لا يوجد تراحم أو مرونة، فموضوع الثكنة العسكرية والرقابة المستمرة لا تنتهي، يحرص على التعليق على كل تصرف، والتوبيخ على كل سلوك، وهذا يؤدي إلى أنه يحرم من فرصته في إثبات ذاته؛ لأن الإنسان في النظام العسكري ليس له إرادة، ولابد أن تسلب منه الإرادة حتى تسير الأمور في الحرب وفي غيرها، والأمور الإدارية والروتينية تحتم وجود ضابط وجندي، هذا يقرر والثاني ينفذ، لكن هذا الوضع في البيت: سيحرم الطفل من فرصته في إثبات ذاته؛ لأنه يرى أنه يخنق نفسه ولا يحقق ذاته.

الشاهد: أن تحويل البيت إلى مناخ ضابط وجندي يحرم فيه الطفل من إثبات ذاته، وتسد الطرق السوية التي يجب أن يسلكها لكي ينمو نمواً طبيعياً، فحينها ليس أمامه إلا المقاومة عن طريق المقاومة السلبية بالعناد أو التحدي، فلابد من ترك الطفل على تهيئته، وإعطائه مساحة من الحرية ومرونة وتدريب على التعاون؛ ليوجد تواصل، ويحصل التعاون بين الطرفين، ونستجيب أيضاً لطلباته المعقولة، ليس الحرمان لأجل الحرمان لا، لا بد من الطلبات المعقولة التي تجاب، حتى لا يشعر بالقهر والظلم.

ومهم جداً في التعامل معه: إشعاره بالأمان، والدفء العاطفي والتقدير والاحترام، ونحذر كثيراً من عملية التحقير الذاتي؛ فعندما تنتقد من تربيه، سواء كان طفلاً أو شاباً مراهقاً، فتجنب عملية التحقير الذاتي؛ لأنك تنتقد السلوك فقط، فتقول: أنت طفل مؤدب، ومثلك لا يليق به أن يعمل هذا، أو لا يليق به، وبتربيته على أنه لا يقول ألفاظاً سيئة، لكن لا تقل له: أنت سيئ الأدب، سيئ الخلق، أنت ميئوس منك طول عمري، وأنا أقول: لا فائدة منك إلى آخر هذه الألفاظ التي هي عبارة عن تحطيم له في الحقيقة، هذا ليس بناءً، بل هذا هدم، ولن يعالج الأخطاء، بل بالعكس سيزيد احتقاره لذاته، ويشعره بعدم الكفاية، وعدم القدرة على إنجاز أي شيء، وتنهدم الشخصية، فلا بد من الاحترام بحسب الطفل.

مثال:

جاء طفلك بشهادة رسوبه، فلا تجعله محل سخرية وتحقير، فتقول له: فاشل، ليست فيك فائدة، والمال الذي نصرفه عليك لا تستحقه إلى آخر هذا الكلام، لكن تقول له: أنا حزين من هذه النتيجة، لكن عندي أمل إن شاء الله أنك تعوضها في المرة القادمة، وتكون النتيجة أحسن، فأنت أظهرت الغضب من هذه النتيجة وعدم الموافقة عليها، وفتحت له باب الأمل؛ لأن الطفل لا ينفع أبداً أن نعلق عليه دائماً أو أن نختم على جبهته: فاشل، ميئوس منه إلى آخر هذه التعبيرات المعروفة.

عندما ينتقد المربي الطفل الذي يربيه ينتقد الأسلوب، ولا يعطيه ختماً يختم به على شخصيته؛ لأنه ما زال ينمو، والمفروض أنه قابل للتعديل، انتقد الفعل والسلوك وليس الشخصية نفسها.

أيضاً: لا بد أن يغرس فيه الشعور بالمسؤولية، دائماً يفهم الطفل أن كل حق مقابله واجب، وأن الحياة ليست فقط أخذ وأخذ وأخذ، لا. الحياة أخذ وعطاء، تريد شيئاً معيناً، ساعد والدتك في ترتيب غرفتك، لابد أن نفهمه دائماً أن الحياة أخذ وعطاء، نشاوره مثلا على رجل المرور في الشارع، نقول: انظر إلى رجل المرور هذا، يقف في الحر، والشتاء، ويتعب، لو لم يعمل ذلك لم يأخذ مالاً يعيش به، أو يصرف به على أولاده، فتعطيه نماذج حية على أن كل شيء دائماً مقابل شيء، وأن الحياة أخذ وعطاء، وليست فقط أخذ، ثم أخذ ثم أخذ. فهناك واجبات تجاه نفسه وتجاه والديه، وإخوته، والمجتمع إلى آخره، فكل حق لابد أن يقابله واجب.

أيضاً لا بد من ترسيخ مبدأ الثواب والعقاب، فإذا أخطأ، لابد أن يعتذر، وإذا أحسن لابد أن يشجع، ويكافأ على الإحسان.

ينصحنا علماء النفس والتربية بالآتي:

 1 ـ الاعتدال في تربية الطفل، وعدم المبالغة في الحماية والتدليل أو الإهمال على حد سواء.

 2 ـ حينما نمنع بعض الحاجيات عن الطفل، فليس ذلك معناه حرمانه، بل المقصود تنشئته تنشئة صحيحة حتى يخرج الطفل للمجتمع قادراً على مجابهة الحياة، فليس كل شيء ميسراً، وليست كل الرغبات متاحة.

 3 ـ يجب على الآباء والأمهات العمل على غمس الطفل في أنشطة رياضية أو ذهنية، تعمل على استغلال طاقته، والبعد التام عن تفضيل أحد الأخوين على الآخر، أو الإسراف في التدليل والاهتمام بأحدهما على حساب الآخر.

 4 ـ إن محاولة إرضاء الطفل وتلبية طلباته على الفور: قد يسعد الطفل ويسعد الأم في الوقت نفسه، حينما تراه راضياً ضاحكاً، ولكن هذه السعادة لن تدوم حينما تتعارض رغباته فيما بعد، مع الممنوعات مثل السهر لأوقات متأخرة.

 5 ـ الأسلوب السليم تجاه تربية هذا الطفل: يدور حول المنح والمنع، والشدة واللين. وعلى الأسرة أن تختار متى تمنح، ومتى تمنع.

6 ـ يجب معاملة الطفل معاملة عادية جداً؛ حتى لا ينشأ شديد الرفاهية لا يستطيع الحياة.

 7 ـ التدليل المبالغ فيه، وإن كان مدفوعاً بالحب والعواطف الطيبة، إلا أنه كثيراً ما ينقلب إلى عكس المراد.

  إن أساس التربية السليمة هي: العدل والمساواة، فالتفرقة في التربية يخلق عداوة وكراهية بين الأبناء.

(لها اون لاين)

إغلاق