تربية

التربية بأسلوب شد الحبل!

رغم قدم لعبة شد الحبل، وكونها من الألعاب الشعبية؛ إلا أنها لازالت تحظى بشعبية واستخدامات في حياتنا اليومية، ولكن بطرائق مختلفة عن السابق. فلم تعد تستخدم كلعبة يمرح بها الأولاد. بل أصبحت أسلوباً تربوياً يستخدمه الوالدان دون وعي منهم. ففي السابق كانت تقوم على مبدأ فريقين يتجاذبان الحبل كل لطرفه ليوقع خصمه، أو على الأقل ينتصر بجذب القسم الأكبر من الحبل لناحيته لتحقيق الفوز. إلا أن هذه اللعبة مازالت تُستخدم بشكل غير مباشر في حياتنا بشكل عام وفي أسلوب تربيتنا بشكل خاص، وبشكل عفوي دون أن نُدرك ذلك. وتظهر في المنظومة التربوية بأسلوبين مختلفين:

فإما أن يكون الوالدان عند طرفي الحبل، وهما من يشد الحبل كل لناحيته، ويبقى الأبناء من المتفرجين المحتارين إلى أي فريق ينجذب. وغالباً ما تكون هذه الطريقة واضحة في أثناء الخلافات الزوجية، أو إثر تفكك الأسرة نتيجة الطلاق.

أو يكون أحد الوالدين هو من يجذب الحبل، وفي الطرف المقابل أبناؤه أو أحدهم، مع كون الوالد الآخر متفرجاً أو مشجعاً. وهو الأكثر استخداماً وشيوعاً. وفي كلا الحالتين يكون الأبناء ضحية لا يمتلكون القرار في الكثير من أمور حياتهم، ولا ينعمون بالاستقرار.

محور هذا الأسلوب التربوي:

هو أن تكون إدارة المواقف المختلفة واحتياجات الأبناء بناء على الحالة الانفعالية للوالدين، دون أن يكون هناك معيار ثابت وواضح يتم التقييم وفقه. وهذا ما يجعل الأبناء في حالة من الحيرة لعدم وضوح الصواب من الخطأ، والممنوع من المرغوب؛ وبالتالي يجعلهم شركاء في هذه اللعبة، لتحقيق ما يريدونه. فيستغلون ارتفاع مزاج الوالدين أو أحدهما فيجذبوا الحبل لصالحهم، ليطلبوا منهم ما يريدونه من احتياجات أو ما يرغبون به من أشياء مُنعوا منها من قبل لا لسبب واضح، غير أنهم قد طلبوها في وقت لم يكن والديهم في حالة مزاجية جيدة.

ويمارس الوالدان هذا الأسلوب أيضاً في تقييم السلوكيات المختلفة للأبناء، فقد يخطئ الطفل ويُعاقب في موقف ما. وعند تكرار الخطأ من الممكن أن يمر الوالدان على ما صدر منه، مرور الكرام بكل سهولة؛ مما يتسبب في تعزيز السلوك. وذلك كله رهين بحسب ما تفرضه الحالة المزاجية للمُربي في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال: قد يقلد بعض الأطفال والديهم، ويحاولون مد أيديهم على أحد الوالدين كما يفعلون هم معهم؛ مما يجد الزجر والتعنيف في هذا الموقف. وفي موقف آخر يعتبر الوالدان بأن طفلهما صغيراً مازحاً ولا حاجة لتعنيفه، ويتجاهلان السلوك تماماً إن لم يضحكا على أنه سلوك غاضب من طفل صغير لا يُدرك. وذلك يجعل من السلوك أسلوباً يجس به الطفل مزاج والديه ورضاهما، ليتباكى ويظهر غضبه إن قبلا السلوك، وبالتالي يحصل على ما يريد. فضلاً على أن ذلك يعزز السلوك ويرسخه.

وكثيراً ما يمتد هذا الأسلوب المزاجي في التربية على نطاق واسع، فعلى سبيل المثال: يتلقى أحد الأبناء قائمة من المدح لذاته ولذكائه وإنجازه، لسبب أو بدون سبب، من قبل أحد الوالدين؛ فيرسم لولده ذاتاً ذات مكانة تجعل منه بكل جدارة، يستحق أن يكون رمزاً أو قدوة بين أقرانه والمجتمع بأسره. وبعد فترة وجيزة، ولهفوة صغيرة تأتي في فترة تقلب مزاج أحد الوالدين؛ ينقلب عليه من التعظيم لذاته إلى إهانات وشتائم تصل للتحقير منه، دون أن يعلم الابن السبب لذلك كله! فضلاً على أنه لا شيء يستحق كل هذا الانفعال.

والأسوأ من ذلك ما يعمد إليه الوالدان من حلول. فكثيراً ما يوحيان لأبنائهم بحالة معينة ويسلمانهم مفتاحاً يحلون به ما لا يرغبون به من المواقف، ثم يتفاجآن من سوء تصرفهم ويعودان لنهرهم والتشديد عليهم، بحسب الحالة الانفعالية التي تسيطر في ذلك الوقت؛ مما تجعل الرضا والقبول للسلوك ناتجاً عن إيجابية المزاج، ورفضه إنذاراً بانخفاض الحالة المزاجية. كأن يتأخر الطفل في فراشه صباحاً فتأتي إليه أمه، وعندما تعلم بعدم رغبته في الذهاب للمدرسة، تساعده دون أن تقصد فتقول: هل تشعر بألم؟ هل أنت مريض؟ وبعد أن يتعلم الطفل أن المرض عذر مقبول لعدم الذهاب للمدرسة. يفاجئ بعد أيام بزجره وتعنيفه، حتى لو كان مريضاً فعلاً. وأن عليه الذهاب للمدرسة. ولو أنهما ما قدما له العذر، لما استخدمه أو علم به. ولكان استخدامه في نطاقه الصحيح.

ومن أهم نتائج هذا الأسلوب التربوي:

بأن يجعل هذا الأسلوب الأبناء في دائرة الارتباك والحيرة، لا يستطيعون أن يدركوا هل هذا السلوك مقبول أم لا؛ لأنهم بسهولة لا يتوقعون تصرف الوالدين حياله. وذك يجعلهم يتذبذبون بين إتيان السلوك أو تركه. بالإضافة إلى أن الطفل يتعلم نقطة ضعف والديه، وينتهز فترة ارتفاع الحالة المزاجية لوالديه بالإلحاح؛ لينال ما لا يناله في وقت آخر. ليبرمج نفسه مع الوقت بإدراك أن مزاجهم هو السر في اصدار الكثير من الأحكام، وعندها يمارس اللعبة باحتراف ليقتنص فترات ارتفاع المزاج لطلب حقوقه. بل ونيل الدلال واستخدام كل المفاتيح التي تمنحه الراحة، ويمارس ما يحلو له من سلوكيات. وعند انخفاض المزاج لوالديه يتقمص دور الابن المؤدب المطيع كما يحلم به الوالدان.

كما أن هذه التربية المتذبذبة، تُنبت التذبذب أيضا في شخصية ومزاج الطفل. والأخطر في  سلوكياته لعدم إدراكه الصح من الخطأ، وما يجب وما لا يجب؟ ومتى يكون، وأين؟ فهو في حالة من التشويش الذهني والارتباك. لكن يبقى على يقين راسخ أنه بإمكانه الحصول على الكثير من الأشياء التي يريدها، ولم يحصل على الموافقة عليها عند انتقاء الوقت المزاجي المناسب حين الطلب، مع الأسلوب المناسب فهما محددان مهمان أكثر من أي قوانين قيمية أو أخلاقية. كما أن عدوى عدم الاستقرار تنتقل للأبناء؛ لتترك الأثر البالغ أو البصمة الكبيرة في ثقته بنفسه والآخرين وفي حالته النفسية بشكل عام. فهو يجد الثناء والتعظيم مرة، والإهانة والشتم مرة؛ ليتساءل الطفل من أنا؟. ويبدأ الصراع بداخله في محاولة ليحسم أمره. فتارة يشد المربي الحبل لليمين؛ فيسمع الطفل ما يدغدغ مشاعره، وأحيانا أخرى يُرخي الحبل لليسار، فتنقلب عليه الدنيا، وهو يقف موقف المتفرج المتسائل من أكون؟ وبين الميمنة والميسرة يقف الطفل في حيرة، وفي عينيه أسئلة كثيرة يريد من يجيبه عليها، ويدله على الطريق الصحيح الذي يحقق له ولوالديه الرضا بفهمه الصح من الخطأ.

فالكثير من الآباء حاسمون، لكننهم متقلبون، يمدحون ويذمون، يرفعون إلى عنان السماء، ثم يخسفون بالأولاد لسابع أرض، يعاقبون على السلوك ويعززوه ذاته، يعطون ويمنعون، دون إطار مرجعي يحكم سلوكياتهم وانفعالاتهم. فالمُناخ المزاجي هو سيد الموقف، والآمر والمسيطر. ليبقى مصير الأبناء الشخصي والتربوي متعلقاً بحبل لا يعلمون له اتجاه.

((لها اون لاين))

إغلاق