تربية

ما هي أهمية سلوك الوالدين في تربية الأطفال؟

لنكن واثقين بأننا نربي أساسًا أطفالنا بسلوكنا وأعمالنا أكثر من أقوالنا. فالطفل بمثابة كاميرا، يلتقط باستمرار كل ما يراه ويخزنه في ذاكرته وهكذا يقلد في صغره و ينسخ في كبره سلوك الأب والأم.

لنعلم أن أطفالنا بمثابة مختبر للصور، يطبعون على سلوكهم صور سلوكنا وأفعالنا وحتى أقوالنا.

في الواقع كلنا وحتى نحن الكبار،  ننسخ سلوك آبائنا و أمهاتنا بطريقتين : بوعي من جهة و بدون وعي “اللاوعي” من جهة أخرى.

فإذا كان عند الوالدين تناقضا ما بين أقوالهم وأعمالهم، سرعان ما يلاحظ الطفل ذلك و هكذا سوف ينسخ سلوك والديه.

بصفقتي طبيبًا نفسيًا، عايشت أمثلة وقصصا كثيرة خلال حياتي المهنية من الأطفال و المراهقين.

مثلا لما يعِد الزوج زوجته بشيءٍ ما ثم لا يفي بوعده. تقول الزوجة لزوجها: “أريد السفر لزيارة والدي” ويرد الزوج قائلاً “السبت المقبل إن شاء الله”. و بعدئذٍ تخبر الأم أطفالها الذين يعبرون عن فرحتهم و يستعدون للسفر. ولما يأتي الموعد المحدد يعتذر الزوج قائلاً: “لنترك السفر للأسبوع المقبل لأنني مرهق أو لدي أشغال أو…”.

أول خطأ في هذه المسألة أن الزوج غيّر البرنامج بدون مشاورة لا مع زوجته و لا مع أطفاله. لقد صنع الأب القرار لوحده ثم غيّره لوحده دون أي اعتبار أهمية هذا السفر لا بالنسبة لزوجته و لا حتى لأطفاله، و يترك الجميع في حزن عميق ويكسر فرحتهم بكل بسهولة. وسرعان  يتذكر الطفل ما جرى في يوم من الأيام الماضية حيث أعلن الأب بكل بساطة عن قراره المفاجئ “تهيئوا للسفر غداً لزيارة الوالدة” ضارباً عرض الحائط بكل برامج زوجته وأطفاله المبرمجة للغد، دون أن يتشاور معهم.

حينئذٍ يتعلم الطفل أن لا أهمية لأمه في صنع القرار وأن السلطة بيد الأب فقط و يلاحظ كذلك الطفل أنه في هذا المنزل بمثابة “بيدق” نحركه كيف نشاء بدون أي تقدير لأحاسيسه و مشاعره.

يلاحظ الطفل أن المساواة بين أمه و أبيه لا وجود لها، وهكذا نعلمه، ذكرا كان أو أنثى، كيف يستنسخ هذا النموذج مستقبلاً. فلا داعي لنملي على الطفل كيفية تحقق السعادة بين “الزوجين” أو عن أهمية الوفاء، و قد نكون ظالمين إذا عاقبنا أطفالنا إذا لم يوفوا بما تعهدوا به لنا، لأننا قد علمناهم بأفعالنا أنه ليس مهمًا الوفاء بالوعد، و إذا فعلنا ذلك فلا نكون متناقضين فحسب، بل نكون ظالمين كذلك. إن المسألة خطيرة جداً وعدم التشاور و مراجعة سلوكنا يقودنا إلى هذا النهج الأعوج في تربية أطفالنا.

فلماذا ننتظر سلوكاً متميزاً لدى أطفالنا غير الذي طبعناه في أذهانهم بأيادينا؟

من أين للطفل أن يأتي بالثقة في نفسه إذا لم نصنعها له نحن الآباء بأعمالنا و نعامله كفرد ذي أهمية كبيرة في وسط العائلة و نتشاور معه و نأخذ القرار بمشاركة الجميع.

هناك مثال آخر، لما يلاحظ الطفل أبويه يتجادلان و يرفعان أصواتهما، و لربما بألفاظ قاسية، بدون أي احترام و غالبا ما يسود التهديد بالفراق و الطلاق. أمام هذه الدراما يشعر الطفل بالخوف و القلق و الفزع و عدم الأمان و يخاف من المستقبل، متسائلاً: “من يحميني إذا كان أبي وأمي يتشاجران ويفترقان؟ لربما أنا السبب في شجارهما؟”.

هكذا يصاب الطفل بالإحساس بالذنب ويفقد الثقة في نفسه و حتى في والديه. و تشتد الأمور خطورةً لما نعلّم الطفل الاحترام و المودة و المحبة و التكلم بهدوء و عدم استعمال السب و اللعن و الطعن وأن يكون لطيفاً مع إخوانه. فيا ترى ماذا سينسخ الطفل؟ سلوك والديه أم تعاليمهم الشفوية؟

لا داعي للكلام عن الكذب والغيبة و الحقد و العداوة و الكراهية مع أفراد العائلة و الجيران و زملاء العمل، هذه الفصول المسرحية التي يشاهدها أطفالنا و نحن أبطالها، سرعان ما نترك خشبة المسرح و نتجه إليهم لنملي عليهم أن يتسموا بالصدق و المحبة و الكلام  والعمل الطيب كما أمرنا الله في كتبه.

في انتظار المشاورة، الأسبوع المقبل، في كيفية تطوير المساواة و المودة و الحوار الروحاني بين “الزوجين” أقترح عليكم هذه التمارين و التجارب. إن شكل هذه التمارين الآتية هي نتيجة بحوث اشتغلت فيها مع زوجتي (معالجة نفسانية). و لقد لقيت نجاحاً كبيراً لدى “الزوجين” و العائلة.

1 –لـ “الزوجين” أن يحددا موعداً أسبوعياً، ساعتين على الأقل، ومن الأفضل أن يكون هذا الموعد خارج المنزل و أن يتشاور الزوجين حول كيفية بناء المودة و التفاهم والاتساق بينهما. ولكل واحد منهما أن يعبر بكل حرية عن رأيه بدون تخوف أو رد فعل الآخر. كما يتشاوران في طرق تربيتهما للأطفال و يتبادلا الآراء عنها. ولكل طرف أن يعبر عن صعوباته للتشاور مع الطرف الآخر ليجدا جميعا الحلول الملائمة.

لكن في نفس الوقت لكل واحد منهما أن يعبر عن كل ما جرى في الأسبوع الماضي من إيجابيات في علاقتهما و كذلك مع أطفالهما لكي يتعلما “عملية التشجيع”  للسير قدماً و يتركا منهج النقد الذي يشل مجهودات كل واحد منهما. فإذا ترعرعت عملية التشجيع بينهما فسوف تنطبع حتمًا في معاملتهما مع أطفالهما وهكذا سيعلمان أبناءهما “عملية التشجيع” لكن بسلوكهما وليس بأقوالهما.

فمثل هذه التمارين قد تكون صعبة في الأول و لكن سرعان ما يتعلم الزوجان وتصبح هذه اللقاءات ضرورية في حياتهما الزوجية والعائلية. هناك إشارة مهمة هو أن يبدأ و ينتهي هذا الموعد الأسبوعي بمناجاة يتجه بها الزوجان إلى الله سائلاً الهداية و المساعدة والتوفيق في مهمتهما. أو إذا كان الزوجان غير مؤمنين فليأخذا بعض الدقائق ليتأملا في أهمية وأهداف هذا الموعد. بهذه المناجاة أو التأمل نتزود روحانيا و نستعد لهذه المشاورة.

2 – التمرين الثاني ذو أهمية كبيرة وعظيمة، وهو اجتماع للأسرة بأكملها، فمن شأنه أن يخلق الحوار والتواصل داخل العائلة ويعزز العلاقات و ينضج الحس بانتماء كل فرد صغيرا أو كبيرا إلى هذه العائلة، كما ينمي مفهوم المسؤولية عند الجميع في راحة وسعادة ونظام العائلة.

بفضل هذا التمرين الأسبوعي ينشأ روح الالتزام والمسؤولية ودور العائلة كخلية لبناء مجتمع أفضل.

كما أن هذا التمرين يقوي الإحساس بثقة النفس و الثقة في أطفالنا وكذلك الثقة في الآباء ومؤسسة الزواج. وهكذا سنكون قد علمنا أطفالنا نموذجاً ايجابياً عبر حياة الزوجين وانسجامهما وتقدير مرتبة وأهمية دور الأطفال داخل العائلة بسلوكنا وليس بأقوالنا.

وللعائلة أن تحدد اجتماعا كل أسبوع بعد تحديد يومٍ ما. أثناء هذا الاجتماع يعيّن سكرتير ومن الأفضل أن يكون من أحد الأطفال لكتابة القرارات. وهذا السجل قد يكون رهن إشارة كل فرد من العائلة طوال الأسبوع لتسجيل الاقتراحات للتشاور فيها يوم الاجتماع. فمثلا “أريد شراء كتاب ما، أو أريد السفر، أو أن اذهب إلى السينما مع أصدقائي، أو أرغب في استقبال صديق في المنزل، أو تغيير أوقات النوم، أو تغيير ديكور المنزل، أو الخروج للأكل في المطعم، أو تسجيلي في نادي الموسيقى أو الرياضة، أو طلب الحوار بهدوء دون صراخ…”.

فكل فرد هو حر أن يسجل أي اقتراح للمشاورة فيه يوم الاجتماع العائلي. هكذا نعلّم الطفل الديمقراطية أولاً داخل البيت بين كل أفراد العائلة حتى يعكسها في ممارساته الاجتماعية. في هذا الاجتماع يوضع البرنامج الأسبوعي لنظام العائلة كما بالإمكان الاتفاق أيضاً على قائمة الطعام خلال الأسبوع الآتي و هكذا لا نقع في فرض الوجبات الغذائية على أطفالنا ونتجنب إلزامهم على أكل ما لا يحبونه وهذا أمر غير ديمقراطي ويكسر شخصية الطفل بطريقة غير مباشرة.

هناك الكثير ما يقال في هذه التجربة و أنا متيقن أننا سنكتشفها و نتعلمها رويداً رويدا. كما أنه بإمكاننا مشاركة ما نتعلمه في هذه التجارب داخل مجموعتنا بحينا مع باقي الآباء و الأمهات.

من المهم كذلك أن تبدأ هذه الاجتماعات العائلية الأسبوعية و تنتهي بمناجاة يتجه بها كل فرد من العائلة إلى الخالق سبحانه طالباً الهداية و المساعدة و التوفيق في مهمته و مهمتهم جميعاً. أو إذا كانت العائلة غير مؤمنة فليأخذوا بعض الدقائق ليتأمل كل فرد في أهمية و أهداف هذا الاجتماع. بهذه المناجاة أو التأمل نتزود روحانياً و نجد أنفسنا مستعدين لهذه المشاورة. إن كلمة الله أو التأمل،  تجذب نفحات الفضل و الخير و تطمئن الأرواح و تؤلف القلوب.

(بالعربية)

إغلاق