افكار ومهارات
التنمية المهنية للمعلّم العربي في ضوء المعايير المهنية
شهد التعليم في القرن الحادي والعشرين تحولاً جذرياً في أساليب التدريس وأنماط التعليم ومجالاته، وقد أتى هذا التطور استجابة لجملة من التحديات التي واجهته؛ تمثلت في تطور تقنيات التعليم وزيادة الإقبال عليه والانفجار المعرفي الهائل. ومن هنا أصبح التعليم مطالباً أكثر من أي وقت مضى بالعمل على الاستثمار البشري بأقصى طاقة ممكنة وذلك بتطوير مهارات الطلاب ليكونوا قادرين على التعامل مع كافة المستجدات والمتغيرات التي يشهدها العصر.
ولعل أهم ما يشغل التربويين هو كيفية إعداد المعلم باعتباره الركيزة الأساسية لتطوير التعليم. ولما للمعلم من تأثير كبير في جودة مخرجات العملية التعليمية، فإن إحداث أي تغيير تربوي أو تحديث في المناهج وطرائق التدريس لا يمكن أن يتم دون وجود معلم كفء مؤهل.
وفي ذلك يقول ابن خلدون “إن التقدم الحضاري بحاجة إلى العلم وإن العلم بحاجة إلى التعليم، ومن خلال التعليم تبرز ضرورة الحاجة إلى المعلم الكفء المؤهل”. (الشبلي،2000: 26)
إذن فالتنمية المهنية ضرورة عصرية، تُمكّن المعلمين من إعداد جيل مستعد لمتطلبات التطور في عصر التكنولوجيا والانفتاح على الثقافات.
مفهوم التنمية المهنية:
جاء في المعجم الوسيط: “(نما) الشيء نماءً، ونموًا: زاد وكثر. وجاء فيه أيضًا: (المهنة): العمل يحتاج إلى خبرة ومهارة وحذقة بممارسته”. (مصطفى؛ آخرون، 1972 :956)
وقد تناول مفهوم التنمية المهنية عدد من الخبراء والباحثين، فقد أشار يعقوب نشوان إلى أنها “عملية منظمة مدروسة لبناء مهارات تربوية وإدارية وشخصية جديدة لدى المعلمين، ولتطوير كفايتهم التعليمية من جانبين هما الجانب السلوكي والجانب المعرفي” (نشوان،1982: 167).
بينما عرّفها عبد الرحمن الأحمد بأنها تلك الأنشطة التي تساعد المعلمين عن طريق التعليم الذاتي لرفع كفاءتهم المهنية، والى إيجاد حلول لمشكلات تعليمهم وإلى تحسين طرق الأداء لديهم. (الأحمد،1987)
التعريف الإجرائي للتنمية المهنية في هذا المقال: “هي جهود مقصودة، ومنظمة ومستمرة تبذلها وزارات التربية والتعليم بالدول العربية لأجل إكساب المعلم العربي الكفايات التدريسية اللازمة لتحقيق المعايير المهنية، ومن تلك الجهود البرامج التدريبية وورش العمل وبرامج الإشراف التربوي”.
تداخُل المفاهيم:
يصعب على كثير من التربويين التفريق بين بعض المفاهيم المتعلقة بتطوير أداء المعلمين وزيادة دافعيتهم للمهنة، فمن ذلك، الخلط بين مفهومي “التنمية المهنية” و ” التدريب “. فقد أشارت الأدبيات التربوية إلى عدة فروقات بين دلالة المفهومين، إذ يؤكد مورانت (Morant 1982) على أن مفهوم التنمية المهنية أوسع من مفهوم التدريب؛ لأن التنمية المهنية تتعلق بالنمو المهني والأكاديمي والشخصي للمعلم من خلال تقديم سلسلة من الخبرات والنشاطات الدراسية التي يكون فيها التدريب بمعناه القريب مجرد جانب واحد من جوانب متعددة، وبذلك فإنّ التدريب يعدُّ أحد أشكال التنمية المهنية.
ويُفضّل بعض التربويين استخدام مصطلح التنمية المهنية بدلًا عن التدريب؛ فالتدريب يُعنى بتعزيز وصقل مهارات معينة في المتدرب ويقتضي وجود مدرِّب يؤدي هذه المهمة، بينما تُعنى التنمية المهنية بتشجيع المعلم في المقام الأول على المبادرة، وتكوين الرغبة الذاتية لديه ليرتقي بقدراته ومهاراته العلمية والمهنية، على أن تكون الأطراف الخارجية مساعدة ومساندة للمعلمين في تنمية الوعي المهني اليقظ إلى جانب المناهج والمهارات المتصلة بعملية التعلم.
المعايير المهنية، ما هيّتها وأهميتها:
المعايير لغة: جمع مِعْيَار، والمِعْيَار العِيَار الذي يقاس به غيره ويسوَّى. (البستاني،1977)
وقد عرّفت وزارة التعليم والتعليم العالي بدولة قطر المعايير المهنية بأنها “هي الإمكانات والمعارف والمهارات الضرورية لقيام الموظفين بدورهم في المهام الرئيسة بشكل فعال في كل مرحلة من مراحل التقدم الوظيفي. أي المهارات والمعارف التي يجب أن يكتسبها المعلمون لممارسة مهنة التدريس، وتوفير خبرات تربوية تعزز كل ما من شأنه أن يحسن عملية التعلم. (وزارة التعليم والتعليم العالي، 2015).
فالمعايير المهنية للمعلم هي جزء من معايير شاملة للمؤسسة التعليمية، بعناصرها ومكوناتها المختلفة، وهي ترتبط بالجودة وتسعى إلى تحسين المخرجات التعليمية، كما أنّها تعدُّ أساسًا مرجعيّا لتقويم أداء المعلم.
وتشير مجلة “المعرفة” السعودية إلى أن الدول العربية لم تبدأ العناية الجادة بالمعايير المهنية للمعلمين إلا مؤخرًا، رغم ارتباط ذلك بمستويات الجودة في النظام التعليمي، فيما سبقت الولايات المتحدة الأمريكية الاهتمام العربي بنحو مائة عام. (مجلة المعرفة،2010).
المعايير المهنية للمعلم في بعض الدول العربية:
تتشابه المعايير المهنية للمعلمين في معظم الدول العربية، فهي تتمركز حول التخطيط للتدريس، وتنفيذه وتقويمه، إلى جانب السمات الشخصية والمهنية للمعلم.
ففي مصر، تركز المعايير المهنية على مجالات التخطيط، واستراتيجيات التعلم، وإدارة البيئة الصفية، والتقويم ومهنية المعلم.
أما المعايير المهنية للمعلم في الأردن فهي: التربية والتعليم في الأردن، أخلاقيات المهنة، السمات المهنية، المعرفة الأكاديمية والبيداغوجية، التعليم والتعلم، والتنمية المهنية.
بينما تتناول المعايير المهنية للمعلم في المملكة العربية السعودية ثلاثة مجالات هي: القيم المهنية والمعرفة المهنية والممارسة المهنية للمعلمين، وتمثلت المعايير المهنية في دولة الإمارات العربية المتحدة في أربعة معايير هي: السلوك المهني والأخلاقي، والمعرفة المهنية، والممارسات المهنية، والتطوير المهني.
المعايير المهنية للمعلمين في دولة قطر:
تشترط دولة قطر لممارسة مهنة التدريس تحقق 6 معايير مهنية، يندرج تحتها 28 إجراء، وتغطي المعايير مجالات التخطيط والتعليم والتعلم، والبيئة الصفية، والتقويم، والتطوير المهني، والشراكة المجتمعية، وهي على النحو الآتي:
- المعيار الأول: التخطيط لتطوير أداء وتحصيل الطلبة.
- المعيار الثاني: إشراك الطلبة في عملية التعلم وتطويرهم كمتعلمين.
- المعيار الثالث: توفير بيئة تعلم آمنة وداعمة ومثيرة للتحدي.
- المعيار الرابع: تقييم تعلم الطلبة واستخدام بيانات التقييم لتحسين تحصيلهم.
- المعيار الخامس: إظهار ممارسات مهنية عالية الجودة والمشاركة في التطوير المهني المستمر.
- المعيار السادس: الحفاظ على الشراكة الفاعلة مع أولياء الأمور والمجتمع.
تجربة دولة قطر في التنمية المهنية للمعلمين في ضوء المعايير المهنية:
تتبنى دولة قطر توجّهًا استراتيجيا في التنمية المهنية للمعلمين، منطلقة من الرؤية الوطنية للدولة؛ وذلك بهدف تحسين مخرجات التعليم. لذا فقد أنشأت دولة قطر “مركز التدريب والتطوير التربوي” التابع لوزارة التعليم والتعليم العالي كبادرة تعزز مبادئ الاستثمار الأمثل في الطاقات البشرية التربوية، بهدف تبني نهج استراتيجي للتدريب والتطوير التربوي يتسم بالشمولية والاستقلالية، ويسهم في النمو المستدام لمهارات ومعارف التربويين، ويرتبط بتقدمهم الوظيفي، ويساعد في حصولهم على الرخص المهنية الداعمة لأدائهم المتطور والمستمر في آن واحد. (وزارة التعليم والتعليم العالي، 2015).
وينصّ الإطار التدريبي لمركز التدريب والتطوير التربوي في دولة قطر على أنّ “المركز يوفّر أسلوباً شاملاً في تطوير التربويين مهنياً، يكون مُعدّا ومنظما بشكل واضح لأجل دعم عملية تطبيق المعايير المهنية الوطنية للمعلمين وقادة المدارس بشكل فعّال”. (مركز التدريب والتطوير التربوي،2017).
وينطلق المنهاج التدريبي للمركز على أساس تنمية المعارف والمهارات والكفايات من خلال توفير برامج أساسية وإثرائية منبثقة من المعايير المهنية الوطنية للمعلمين، تلبي الاحتياجات المهنية للمعلمين.
فإلى جانب ما يقدمه مركز التدريب والتطوير التربوي من برامج تدريبية، تقوم إدارة التوجيه التربوي بوزارة التعليم والتعليم العالي بمساندة ودعم المعلمين في تحقيق المعايير المهنية من خلال زيارات الموجهين التربويين الميدانية للمدارس، وبرامج التوجيه التربوي الأخرى.
كما يدعم مديرو المدارس عمليات التنمية المهنية المرتكزة على المعايير المهنية، لتتشكل بذلك سلسلة متصلة من عمليات التطوير المهني للمعلم بالشراكة بين مركز التدريب والتطوير التربوي وإدارة التوجيه التربوي والمدارس.
واقع التنمية المهنية للمعلمين في دولة قطر:
أجريت عدة أبحاث ودراسات ذات صلة بالمعايير المهنية، ونورد فيما يلي نتائج أحدث الدراسات التي يمكن أن تُعطي مؤشرًا عن واقع التنمية المهنية للمعلمين في دولة قطر.
فمن تلك الدراسات دراسة حصة الصادق وآخرين (2016) حول واقع نظام الرخص المهنية للمعلمين في دولة قطر. وقد أظهرت نتائج الدراسة أنّ استحداث نظام الرخص المهنية أدى إلى تطوير المعايير المهنية للمعلمين ومشاركة المجتمع الخارجي في عمليات تقييم المعلمين، كما أسهمت في تدريب المدارس وتمكينها من تحمل مسؤولية تقييم المعلمين. (الصادق؛ آخرون، 2016)
كما كشفت النتائج عن عدم وضوح المعايير المهنية للمعلمين، وعدم ارتباط نظام الرخصة بنظام تقييم المعلمين في المدارس، وقد يرجع ذلك إلى عدم التنسيق بين الجهات ذات الصلة.
أمّا دراسة مايكل رومانوسكي وأمة الله تسنيم (2014) حول أثر المعايير المهنية الوطنية لدولة قطر، فقد كشفت عن تأييد المعلمين للمعايير المهنية الوطنية ذات الصياغة الواضحة، والتي تعكس احتياجات وتطلعات دولة قطر. كما بينت النتائج المستقاة من ردود الاستبانة أن 37٪ من عينة الدراسة يعتقدون أن المعايير المهنية للمعلمين توفّر إطارًا فعالًا لتحسين نوعية التعليم والتعلم، بينما قدّمت 50٪ من عينة الدراسة وجهة نظر معارضة؛ فهم يرون أن معظم المعايير المهنية للمعلمين غير واضحة، ويختلف فهمها من معلم إلى آخر. بينما انحرفت ردود 13٪ من عينة البحث عن السؤال.
وقد أجرت وزارة التعليم والتعليم العالي تنقيحًا للمعايير المهنية للمعلمين مستفيدة من نتائج هذه الدراسة.
كما أجرى أحمد عبد الباقي (2017) دراسة عن التنمية للمعلمين في دولة قطر في ضوء المعايير المهنية للمعلمين، شملت عينة الدراسة (257) من معلمي المرحلة الثانوية البالغ عددهم (1495)، أي ما يشكل حوالي 71% من مجتمع الدراسة الكلي.
وقد توصلت الدراسة إلى أهمّ النتائج الآتية: (عبد الباقي،2017)
- مفهوم التنمية المهنية واضح لدي معلمي المرحلة الثانوية بدرجة عالية بلغت 76%، مع وجود خلط حول بعض المفاهيم، مثل التنمية المهنية، التدريب، التطوير المهني.
- فاعلية التنمية المهنية في المدارس الثانوية بدولة قطر متحققة بدرجة متوسطة بلغت 69.8%، وذلك في جميع مراحلها تخطيطًا وتنفيذًا وتقويمًا.
- برامج التنمية المهنية القائمة حاليًا تسهم في تحقيق المعايير المهنية لدى معلمي المرحلة الثانوية بدرجة متوسطة، بلغت 70.6%.
- المعايير المهنية الوطنية بصورة عامة متحققة لدى معلمي المرحلة الثانوية بدرجة عالية بلغت 77%، مع تحقق بعض المعايير بدرجات متوسطة.
التوصيات:
إنّ واقع التنمية المهنية للمعلمين في دول العالم العربي قد لا يختلف كثيرًا عنه في دولة قطر، ويؤكد ذلك تبني جامعة الدول العربية خطة لتطوير التعليم في الوطن العربي أقرته قمة دمشق 2008، وقد أكّدت الخطة على الدور المركزي للمعلم العربي في ظلّ التحديات التي تواجهها منظومة التعليم العربية في عصر ثورة المعلومات والاتصالات والطفرة التكنولوجية المعاصرة.
وانطلاقًا من الدور الهام للمعلم نوجز أهم التوصيات التي من شأنها تطوير أداء المعلم العربيّ، وتحسين برامج التنمية المهنية في الوطن العربي:
- إيجاد إطار عربي موحّد للمعايير المهنية للمعلمين على مستوى العالم العربي.
- نشر ثقافة التنمية المهنية للمعلمين في العالم العربي، باعتبارها مدخلًا للتنمية المستدامة وداعمة للتعلّم المستمر والتحول إلى اقتصاد المعرفة.
- تنفيذ برامج مهنية مشتركة على مستوى العالم العربي تضمن تبادل الخبرات المهنية بين المعلمين العرب.
- توجيه برامج التنمية المهنية في الدول العربية إلى إكساب المعلمين المعارف والمهارات والاتجاهات المتعلقة باستراتيجيات التعلّم الحديثة، وتوظيف التكنولوجيا.
- تشجيع الاستفادة من مؤسسات المجتمع المدني في الإصلاح التعليمي، وزيادة دور الأسرة وأولياء الأمور في العملية التعليمية مما يساند المعلم العربي في أداء رسالته.
خاتمة:
إنّ إصلاح التعليم في العالم العربي يقتضي إجراء مراجعات شاملة للمنظومة التعليمية بأكملها بمشاركة واسعة بين المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، على أن تركّز هذه المراجعات على كل ما يتعلق بتطوير أداء المعلم وفق معايير مهنية مُحكمة، من أجل تحقيق تقدّم نوعي للتعليم في الوطن العربي.