التعليم عن بعد
منجزات 3 أعلام من السّلوكيّين، دراسة في بعض إضافات ثلاثة من الرّوّاد: واطسن، بافلوف، سكينير
حين بدأ ” ويلهليلم فونت ” *[1] يمارس تجاربه المعمليّة باعتماد المنهج الاستبطانيّ *[2] في علم النّفس، لم يكن ليتوقّع بتاتا أنّه كان بصدد طرق مجاهل جديدة في طرائق البحث في هذا العلم، و تحديدا من حيث المبدأ الّذي يقوم عليه، أي التّجريب بغاية التّدقيق، بل و حتّى البرهنة أيضا. و هو ما حوّل وجهة النّظر فيما بعد من “الاستبطان” إلى الدّعوة للبحث فيما ظهر من السّلوكات، بدلا عمّا خفي منها أو تميّز بالذّاتيّة بما هي من الخاصّيّات غير العلميّة. و هو المبدأ الّذي تأسّست عليه”السّلوكيّة.”
إنّ دراسة إضافات عدد من روّاد وجهة النّظر السّلوكيّة في علم النّفس، الثّلاثة الّذين وقع عليهم الاختيار*[3]، دون غيرهم، مفيد من حيث كونه بداية مهمّة تأسّست على قاعدة من منجزاتها و ابتكاراتها و مقرّراتها المدارس الأخرى، الّتي حوّلت دائرة الاهتمام إلى آفاق جديدة، لتدرسها و تثري بها المشهد العامّ في دراسة خبايا النّفس بمختلف أبعادها، و هو أيضا، ما أثرى فهم عمليّة التّعليم والتّعلّم من حيث الطّرائق و المبادئ و الآليّات.
كما أنّه من المناسب الإشارة إلى موطن الجدّة في هذه الدّراسة الدّقيقة وهو العلاقات الممكنة، والّتي من المرجّح أنّها لم تُرْصدْ سابقا و الّتي يمكن أن تربط بين منجزات الرّوّاد بعضها ببعض فتشدّ البعض إلى الآخر، وتؤشّر لمدى تقاربطرح هؤلاء الأعلام من حيث الأسس و المبادئ و المقاربات. و تفسيره؛ أنّ لكلّ رافد من روافد هذه المدرسة أسسٌ مشتركة أجمع عليها أعلامها، وبالمثل اختلافات تخصّ إضافات كلّ عَلَم في المنهج أو في زاوية النّظر الّتي ركّز عليها في طرحه، أو في مناحي دراسته؛ دون غيره.
- فبِمَ تميّزت “السُّلوكيّة” أساسا في بداياتها مع “جون واطسن”*[4] من حيث المنهج و الخصائص و الرّهانات؟
- ما الّذي أسّس له طرح “السّلوكيّة” في نسختها الرّوسيّة لقضيّة السّلوك، بشكل موضوعيّ، من خلال النّظر في بعض الآثار الرّئيسيّة لرائدين هما “بخترف”*[5] و “بافلوف”*[6] ؟
- ما هي النّقاط الّتي اتّفق حولها “جون-ب-واطسن” مع “بافلوف” من حيث النّظرة لخصائص السّلوك؟
- كيف أقام “سكينير” *[7] ثورة على مركزيّة المحرّكات اللّاإراديّة، رغم توافقه مع نتائج أبحاث”بافلوف” حول المنعكس الشّرطيّ، في قراءته للسّلوك بتوجّهه الإجرائيّ *[8] ؟
- كيف أقام “سكينير” توجّهه الإجرائيّ على جزء من مكتشفات “ثورندايك” *[9] ؟
- و أخيرا، ما هي أكثر الاستعمالات غرابة في مكتشفات المدرسة السّلوكيّة؛ عمليّا: تعديل السّلوك باستعمال الإشراط الكلاسيكيّ و بعكس ذلك الإشراط مع “واطسن”، ثمّ عبر اكتشاف لمحة حول عمليّة “غسل الدّماغ” كما اكتشفها “بافلوف”، و نظريّا: من خلال دراسة بعض مبادئ “التّعزيز الإيجابيّ للتّحكّم في السّلوك”؛ كما حدّد ذلك “سكينير”؟
1- إضافات واطسن للمدرسة السّلوكيّة: مرحلة التّأسيس الفعليّ
يختلف مفهوم السّلوكيّة من عَلَم لآخر من أعلامنا الثّلاثة، و لن يقع الاعتماد على تعريف موحّد إلّا من حيث كون هذا المنهج في علم النّفس لا يعتمد إلّا على مبدأ مشترك يميّز روّاد المدرسة المذكورين علاوة على غيرهم من روّاد السّلوكيّة و هو: “دراسة السّلوك الظّاهر، نظرا لقابليّته للملاحظة من ناحية أولى و قابليّته للتّجريب من ناحية ثانية.” والغاية من ذلك هو فهم الظّاهرة للتّحكّم فيها؛ ثمّ لتعميم المكتشفات المناسبة و تعديل الأخرى.
أسّس “واطسن” مبادئ المدرسة السّلوكيّة في علم النّفس، و كان همّه الأساسيّ ربط علم النّفس بمبادئ علميّة، قدر الإمكان؛ خاصّة من حيث منهج البحث و التّناول. و ذلك عبر اعتماد التّجربة و الملاحظة و القيس أساسا.
لقد سعى الرّجل لتأكيد إمكانيّة أن يكون علم النّفس علما “طبيعيّا”: بقيامه على خاصّيّة التّجريب أساسا، ولذلك حصر موضوعيّا هذا العلم في دراسة مبادئ السّلوك و التّكيّف عند الكائن الحيّ (بشريّا كان أو حيوانيّا).
إنّ الغاية الأساسيّة لهذه المدرسة منذ نشأتها كانت تتحدّد أساسا في دراسة السّلوك التّكيّفيّ مع عناصر البيئة الخارجيّة، و لعلّ هذه النّقطة هي الأرضيّة المشتركة لروّاد الرّؤية السّلوكيّة في الدّراسة النّفسيّة؛ في حين أنّ وجه الاختلاف بين تناول الرّوّاد السّلوكيّين المذكورين يكمن في نوعيّة البيئة الّتي يخضع لها السّلوك التّكيّفيّ؛ و نمط السّلوك الملاحظ بالدّرس أيضا.
فبم تميّز طرح “واطسن” عن بقيّة طروحات الرّائدَيْن الآخريْن الّذين سنذكر إضافاتهما الخاصّة في المراحل القادمة من هذا البحث؟
يقول “واطسن” في كتابه “السّلوكيّة”: “… السّلوكيّة هي العلم الطّبيعيّ الّذي يدرس كلّ السّلوك و التّكيّف البشريّين وذلك بطرائق تجريبيّة، و بقصد ضبط سلوك الإنسان وفقا لمكتشفات العلم.”
على أساس هذا المبدأ، أثّرت أعمال هذا العَـلَمِ المؤسّس للرّؤية السّلوكيّة في دراسة النّفس في أعمال عدد كبير من العلماء، فشملت نتائج مهمّة جدا، انتشر أثرها حتّى في علوم أخرى كعلم الاجتماع أو علم *”اللّسانيّات”*.
و من أكثر ما اشتهر به “واطسن” إقرار هامّ غير مسبوق؛ ادّعى خلاله أنّ بإمكانه -من حيث تجاربه و نتائجها حول السّلوك البشريّ والحيوانيّ- أخذ “أيَّ طفل صحيحٍ، حسن التّكوين” و يجعل منه أيّ شيء يريد؛ بشرط أن يتحكّم في محيط ذلك الطّفل، و لكنّه يؤكّد في مرحلة أخرى متقدّمة بعد ذلك الإقرار ؛أنّه كان يقصد بذلكـ تحديد برنامج للعمل وفق مبادئ اكتشفها حول مجاهل السّلوك البشريّ؛ تمثّل تحدّيا علميّا لدفع الاكتشاف لأقصى حدوده، أي أنّه لم يقصد بذلك حرفيّة معنى إقراره المذكور.
على أساس ما ذكر سابقا يتبيّن لنا قيام علم النّفس كما يراه السّلوكيّ وفق الإضافة المخصوصة لـ”واطسن” باعتباره شعبة تجريبيّة موضوعيّة خالصة من العلم الطّبيعيّ؛ على “التّنبّؤ بالسّلوك و ضبطه“؛ وقد كان ذلك هو هدفه الأساسيّ.
-أنكر “واطسن” تبعا لما اعتبره ضبطا علميّا للسّلوك مفهوم “الشّعور” بمعناه السّيكولوجيّ الانفعاليّ، فعوّض الصّورة و الصّوت من حيث ارتباطها بالأعضاء ذات الفعاليّة الشّعوريّة المخصوصة باعتبارها عناصر خبرة الشّعور بــ”الإستجابة” ؛”إستجابة الضّوء”..”إستجابة السّمع”..”إستجابة الشّمّ”…فالملاحظ أنّها أشكال متنوّعة من حيث موضوع الإدراك، لكن وفق آليّة موحّدة و هي “الإستجابة”.
*ولم يكن لذلك إلّا تفسير واحد؛ يقوم على اعتبار العَلَمٍ المذكور السّلوك ذا أصل حسّيٍّ-حركيٍّ؛ يتركّب من سلوكات هي في حقيقتها استجابات لـ”منبّه” أو أكثر؛ بما في ذلك صور الذّاكرة نفسها، إنّها -بماهي خاضعة لآليّة “الاستجابة” ذاتها- فهي تستجيب لمنبّه خاصّ كاستجابة السّمع للصّوت و استجابة البصر للألوان…
بناء على ما سبق ذكره ، تبلورت دراسة علم النّفس وفق الرّؤية السّلوكيّة المخصوصة لــ”واطسن” ؛ على أساس أنّ الإدراك ما هو إلّا استجابات متنوّعة لمنبّهات تحكم السّلوك، بحيث يمثّل الإدراك استجابة داخليّة لمؤثّرات تحدّدها البيئة الخارجيّة. فكيف طُرحت القضيّة السّلوكيّة في علم النّفس بشكل مختلف نسبياّ عند “بافلوف”؟
2- إضافات بافلوف: “الإشراط الكلاسيكيّ” و استثماراته في علم النّفس
عندما كانت السّلوكيّة بنسختها الأمريكيّة تتأسّس كتيّار احتجاجيّ أساسا، على مذهب علم النّفس التّجريبيّ الاستبطانيّ؛ كان الاكتشاف الرّوسيّ “للمنعكس الشّرطيّ” عملا جادّا، باعثا للطّمأنينة عن صحّة التّمشّي السّلوكيّ عند أعلام السّلوكيّة الآخرين. (المدرسة السّلوكيّة الأمريكيّة تحديدا).
ففي ذات الفترة تقريبا من سنة 1905 وقع اكتشاف “المنعكس الشّرطيّ” كمفهوم؛ يفسّر و يؤسّس لتوجّه تجريبيّ موضوعيّ جديد؛ و كان ذلك في معملين منفصلين في مدينة “سان بيتريسبيرغ” الرّوسيّة.
لقد اكتشف “بخترف” -الّذي عمل مطوّلا في تحليل وظائف الجهاز العصبيّ و تحديدا في أعراضه و أمراضه- نتيجة غاية في الأهمّيّة تقرّ بفكرة بلورها عبر دراسة تجارب معمليّة و وسمها بــ”الأفعال المُنعكِسة المترابطة”، وذلك في إطار مخصوص جدّا تتعلّق تجاربه بالانعكاس الحركيّ العصبيّ؛ و لطالما كتب حول نظريّاته وتجاربه دون أن يفسِّر ذلك وفق الأفكار الّتي ميّزت النّظرة الاستبطانيّة في علم النّفس -باعتبار انتشارها في تلك الفترة-، و كان إطار عمله الأكبر منخرطا في إطار “علم النّفس الموضوعيّ”.
أمّا عن اكتشافه فقد كان يتمثّل في ملاحظة حدوث انقباض يظهر على مستوى حركات التّنفّس حال ملامسة الجلد لجسم بارد، و الملاحظ هنا أنّ هذا يعدُّ “منعكسا طبيعيّا”؛ و في حال تكرّر استعمال منبّه آخر، ليس له أثر ظاهر على مستوى حركات التّنفّس مقترنا بالمنبّه البارد على الجلد، فسيكون للمنبّه المحايد نفس أثر المنبّه البارد على الجلد، الّذي له أثر الانقباض على مستوى حركات التّنفّس.
أمّا بالنّسبة لــ: “بافلوف” فقد تمحور عمله حول فيزيولوجيا الهضم، بعد أن انحرف عن اهتماماته الطبّيّة، وبعد سنة 1900 لفت انتباهه في لحظة ’’فتح علميّ’’ أنّ الكلب الّذي اتّخذه موضوعا للتّجريب حول الهضم، أصبح لعابه يسيل لمجرّد رؤية الطّبق الّذي تعوّد الخادم تقديم الطّعام له فيه، أو حتّى لمجرّد سماع دويّ وقع خطوات هذا الأخير الّذي يقدّم له الطّعام خلال التّجارب. ثمّ توصّل بعد ذلك إلى صياغة مبدأ “المنعكس الشّرطيّ”، حيث فصّل التّجارب في ذلك الإطار و نوّعها و توصّل إلى صياغة مبدأ تكّيفيّ مهمّ بين الحيوان و بيئته.
إنّ أعمال “بافلوف” المذكورة سابقا و غيرها تبيّن أنّ الرّجل توصّل إلى اكتشاف نظريّة تفسّر بعض وظائف الدّماغ، لأنّها تعبّر عن تضمّن المخّ لمحلّلات تستثيرها منبّهات ذات خاصّيّات جزئيّة، من جملة منبّهات مختلفة، تَرِد بشكل متواصل على حواسّ الكائن الحيّ. و ما “المُنعَكَسات الشّرطيّة” إلّا استجابات لما ترصده المحلّلات المذكورة سالفا.
إنّ “الإشراط” من وظائف “المُخيخ”، و ممّا يفسّر ذلك هواستحالة حدوثه عند إصابة هذا العضو أو عند انشغاله بمهمّات أخرى حيويّة كالنّوم مثلا، لأنّها تعطّل وظائفه بالكامل؛ و من ضمن هذه الوظائف الانعكاس بأنواعه (الطبيعيّ أو الشّرطيّ). وهو ما أشار إليه في كتابه الموسوم بـ: “الانعكاسات الإشراطيّة” الصّادر سنة 1927.
لقد تم استعرض بعض أهمّ مكتشفات المدرسة السّلوكيّة الرّوسيّة وتحديد اتّجاهها الموضوعيّ، فهل يمكن تحديد أرضيّة علميّة مشتركة يمكن أن تجمع بين منهج “واطسن” السّلوكيّ من ناحية و نتائج مكتشفات أعمال “بافلوف” من ناحية ثانية؟
اعتبر “واطسن” أنّ مناهج “بافلوف” الموضوعيّة تفيد في تجربتها على الحيوان؛ كما أقرّ بوجوب إحلال نمط التّفسير البافلوفي في علاقته بتجارب واضحة المعالم محلّ التّفسيرات اللّفظيّة الّتي تعتبرأقرب إلى المنهج الاستبطانيّ منها إلى ما كان يدعو إليه من تفسيرات موضوعيّة، و من المهمّ الإشارة في هذا الصّدد إلى اعتراف”واطسن” بمبدئ “الانعكاس الشّرطيّ” حين قال بإمكانيّة تفسيره لتغيير تكوّن العادات و كان ذلك سنة 1924. (تزامنا مع تجربته في تعديل السّلوك مع الطّفل “بيتر” الّتي سنذكرها في سياق لاحق.)
بذلك، تكون بعض مبادئ “واطسن”في الرّدّ على الإستبطانيّين من ناحية و في تفسير بعض السّلوكات البارزة للكائن البشريّ من ناحية ثانية مرتبطة أشدّ الارتباط بما اكتشفه “بافلوف” حول “المنعكس الشّرطيّ”؛ فهل كان الأمر مع “سكينير” بمثل ما كان مع “بافلوف” و “واطسن”؟
3- سلوكيّة سكينير:” الإجرائيّة ” -أو الفعّالة- و اثراؤها لوجهة النّظر “السّلوكيّة” في علم النّفس
تحدّث “سكينير” في كتابه :”سلوكيّة الأعضاء” عن إشراط جديد؛ وسمه بالفاعليّة أو الإجرائيّة operant (وقد وسمه بعض الباحثين بالسّلوكيّة الجديدة)؛ بعد أن عبّر صراحة عن قبوله بالمنعكس الشّرطيّ؛ كما حدّده “بافلوف”- وهي النّقطة الّتي يلتقي فيها طرح “بافلوف” مع “سكينر”- ؛ و يتمحور حول “إمكانيّة تكرّر السّلوك بطريقة مماثلة لتكرّره مع “الإشراط الكلاسيكيّ” لـــ”بافلوف” ، وذلكـ باعتماد مبدأ “التّعزيز الخارجيّ” و ليس الدّاخليّ كما في المنعكس الشّرطيّ.
إنّ تعزيز سلوك معيّن (حركة معيّنة أو تصرّف ما) بشكل إيجابيّ يزيد من احتمال تكرّره؛ في حين أنّ تعزيزه سلبيّا يقلّل من احتمال تكرّره ثانية؛ على هذا الأساس أسّس “سكينير” قانونين لــلــ”إشراط الإجرائيّ” الأوّل هو :”قانون التّقوية”، و أساسه أنّ العامل الإجرائيّ الّذي يتبعه حضور معزٍّز مُقوٍّ تزداد إمكانيّة حدوثه ثانية من حيث القوّة والكثافة، أمّا الثّاني فهو :”قانون الحذف” و هو أنّ العامل الإجرائيّ المُعزَّزَ سابقا حين لا يكون متبوعا بِمُعَزِّزٍ مُقَوٍّ فإنّ احتمال تكرّره ثانية يقِلُّ من حيث القوّة و الكثافة.
” يقول أصحاب كتاب “علم نفس التّعلّم، مفاهيم و مصطلحات” *[10] – :”السّلوك الإجرائيّ هو النّشاط الجسديّ المتميّز بفاعليّته لا بِردِّ الفعل. للسّلوك الإجرائيّ نتائج يسبّبها (…) السّلوك الإجرائيّ يتعلّق بما نسمّيه بشكل مشترك السّلوك الإراديّ أو السّلوك القصديّ: بسببٍ من علاقته الوظيفيّة المخصوصة بالأحداث الّتي تعقُبُه (…)، والسّلوك الإجرائيّ تحكمه نتائجُهُ.”
نتبيّن من خلال ما سبق أنّ “الإشراط الإجرائيّ” يتحكّم في السّلوكات القصديّة، وعلى هذا الأساس نفهم سبب ’’استعارة’’ “سكينير” لــ”قانون الأثر” من مقاربة “إدوارد ثورندايك” للتّعلّم؛ حيث يحاول الكائن الحيّ أصنافا عديدة متنوّعة من الاستجابات لبيئة متكيّفة من أجل حلّ وضعيّة مشكل، حيث تنحصر الاستجابات الملائمة و تُثَبَّتُ الاستجابة الوحيدة المسبّبة لأثر ممتع، أو لأثر مرتبط بحلّ المشكل الّذي يعيشه و بالتّالي؛ تُمْحى أو “تنطفئ” الاستجابات الّتي لا تؤدّي إلى نتائج إيجابيّة في علاقتها بحلّ الوضعيّة المشكل المقترحة في التّجربة.*[11]
إنّ السّلوك الإجرائيّ محكوم بنتائجه -كما رأينا سابقا- و انطلاقا من تجارب “سكينير” باستعمال ما يعرف بـ:
“علبة سكينير” *[12]؛ وقع رصد أربعة أصناف من النّتائج تتوزّع على نوعين مزدوجين: النّوع الأوّل هو “التّقوية” وتكون إيجابيّة (R+)،على شكل مكافأة، أو سلبيّة (R-) و يقصد بها إزالة المُعزِّز للحصول على الأثر المطلوب؛ و مثال ذلك تجنّب الفأر داخل العلبة المذكورة الأرضيّة المكهربة و هو بصدد البحث عن غذائه.
أمّا النّوع الثّاني فهو “العقوبة” و هو على نوعين أيضا: الأوّل هو العقوبة الإيجابيّة (P+) و يكون ذلك بالعقاب بالمعنى المادّيّ للكلمة؛ كضرب الأمّ مؤخّرة طفلها حين يسيء التّصرّف. أمّا الصّنف الثّاني للنّوع الثّاني فهو العقوبة السّلبيّة (P-) ، و يكون ذلك مثلا حين يتمّ تجاهل شخص يتكلّم بصوت عالٍ من قِبَل محيطيه فيعمل على تغيير سلوكه تفاعلا مع ردّة الفعل المخصوصة.*[13]
يتبيّن من خلال ما تقدّم نمط التّغيير الحاصل مع “سكينير” في مكتشفات المدرسة السّلوكيّة في علم النّفس؛ بارتكازها على الأشكال الواعية من السّلوك، و هو ما يعدّ إثراء لمكتسبات المدرسة السّلوكيّة و تنويعا للاهتمامات.
فما هي أغرب الاكتشافات السّلوكيّة نظريّا وعملياّ المتعلّقة بأعلام السّلوكـيّين الثّلاث: ” العلاج السّلوكيّ” مع “واطسن”؛”غسل الدّماغ” مع “بافلوف” و أنماط “التّعزيز” المختلفة كما بوّبها “سكينير”؟
اعتمد “واطسن” اكتشافات السّلوكيّة ليحقّق أمرا و نقيضه. ولقد كان هذا من أغرب ما يمكن أن يقوم به العالم أو الباحث؛ لقد تحقّق ذلك خلال تجربة “واطسن” مع طفلين صغيرين أحدهما “ألبارت” الّذي ولّد العالم لديه “فوبيا” من الفئران البيضاء عبر عمليّة “إشراط” محكمة منهجيّة. و لكنّه لم يفلح في عكس ذلك الإشراط للطّفل المذكور ذي سنّ التّسعة أشهر وكان ذلك تحديدا سنة 1920 . لكنّه عمد في مناسبة أخرى إلى علاج الطّفل “بيتر” ذي الثلاث سنوات باعتماد عمليّة إشراط عكسيّة إيجابيّة، تتمحور حول تحويل الإشراط الّسلبيّ إلى إيجابيّ باعتماد آثار إيجابيّة متعلّقة بالطّعام، خاصّة باعتباره ذي أثر مريح ممتع على نفسيّة الطّفل، مقترنا بظهور الأرنب الأبيض موضوع الفوبيا الخاصّة به، وقد كان ذلك سنة 1924.*[14]
أمّا “بافلوف” فقد أبدع تقنية سلوكيّة غريبة ذات أثر مدمّر على الشّخصيّة البشريّة و تسمّى: “غسل الدّماغ” أو السّيطرة العقليّة؛ و بلغة علميّة: “الكبت البين-هامشيّ”*[15] و الفكرة منها هي القيام بعمليّة تدمير ممنهج منظّم، لنفسيّة شخص ما تمرّ عبر إيصاله إلى حالات غير طبيعيّة من الخوف و الغضب و التّوتّر العصبيّ مصطنعة ليست غاية في حدّ ذاتها بقدر ما هي وسيلة أو مرحلة من مراحل العمليّة. بعد ذلك يقوم “الوكيل” ببرمجة تغيير متدرّج لكيفيّة اتّخاذ القرار عند الضّحيّة؛ وفي هذه المرحلة بالذّات يغدو ممكنا إعادة برمجة “دماغ الضّحيّة “؛ بمعنى طريقة تفكيره، وبعد إتمام زرع تلك الأفكار البديلة عن أفكار الضّحيّة الأصيلة؛ فإنّ “الوكيل” يعمل على تقويتها باعتماد وسائل سرّيّة و طرق غامضة. بذلك يقع تعزيزها و تثبيتها لتغدو كما لو كانت هي الأفكار الأصليّة للضحيّة؛ و على هذا الأساس تتنوّع ردود أفعال الضحيّة تجاه البرمجة البديلة و تتنوّع من الرّفض إلى الجنون أو الانتحار أو غير ذلك من الحالات النّفسيّة بحسب الفروقات الفرديّة للضّحايا.
-هذه العمليّة المذكورة تتبلور على ثلاث: المرحلة الأولى “مرحلة المُعادِل” و خلالها يتفاعل دماغ الضّحيّة مع مثيرات قويّة و أخرى ضعيفة بكيفيّة متماثلة.
أمّا المرحلة الثّانية فهي “مرحلة المُفارَقة” حيث يتفاعل دماغ الضّحيّة في هذه المرحلة بنسق أسرع مع المثيرات الضّعيفة أكثر من تفاعله مع المثيرات القويّة.
في حين تتمثّل المرحلة الثّالثة وهي”المرحلة فائقة المفارقة” في تغيّر استجابات الدّماغ-نفسه-من الإيجابيّ إلى السّلبيّ و بالعكس.
من خلال ما سبق تتبيّن لنا كيفيّة إحداث أصناف غريبة من الآثار النّفسيّة على النّفس البشريّة؛ لكن وفق توجّه تطبيقيّ يقوم على مكتشفات المدرسة السّلوكيّة الأكثر أصالة و التصاقا بالمبدأ الإشراطيّ كما اكتشفه “بافلوف” و أثراه “واطسن”.
فكيف أبدع “سكينير” نظريّا أفكارا للتّعزيز الإيجابيّ على علاقة وثيقة بالتّفكير في طرق فعّالة لتعديل السّلوك”؟
إنّ “سكينير”؛ إذ يصنّف أنواع المعزّزات كما ذكرنا سابقا، فهو يفضّل التّعزيز الإيجابيّ لسببين أساسيّين: أمّا الأوّل فهو أنّ التّعزيز الإيجابيّ لا يسبّب ردود أفعال سيّئة؛ في حين أنّ السّبب الثّاني يتمثّل في أنّ التّعزيز المذكور لا يوحي بأنّ الفعل أو السّلوك المطلوب اعتماده مرتبط بعوامل التّسلّط و الإكراه بأيّ حال من الأحوال.
و بناء على ما سبق ذكره؛ أورد “سكينير” و”شارلز فارستر” في كتابهما :”جداول التّعزيز”*[16] ؛ أربعة أصناف من التّعزيز الإيجابيّ وسماها بــ”البرامج” : الأوّل هو “برنامج النّسبة الثّابتة” وهو حين تكون المكافأة ناتجة عن عدد محدّد منتظم من إتيان سلوك أو فعل معيّن، ومثال ذلك حين يتحصّل فأر تجارب على الطّعام بعد ضغط الرّافعة مرّتين متتاليتين؛ و لا يتكرّر ذلك إلّا بتكرار الفعل وفق نسق تكرّر حدوث النّسبة الثّابتة نفسها مرّة أخرى أو أكثر.
أمّا الثّاني فهو “برنامج النّسبة المتغيّرة” حيث تكون المكافأة حاصلة وفق عدد غير محدّد من تكرار السّلوك أو الفعل المطلوب. و بذلك تكون المكافأة حاصلة، كلّ مرّة، بعد عدد مختلف عن العدد الّذي أدّى لتحصيلها في المرّات السّابقة؛ بل و حتّى فيما سيلحق ذلك من المرّات.
في حين يتطلّب الصّنف الثّالث الموسوم ب:”البرنامج ذو المهلة الثّابتة” انتظار فترة ثابتة بين كلّ تعزيز؛ بعد الإتيان بالسّلوك المطلوب تعزيزه؛ في حين يمثّل الرّابع: “البرنامج ذو المهلة المتغيّرة” وهو الحاصل حين تكون المهلة بين التّعزيزين المتتاليين متغيّرة كلّ مرّة.
بهذا يقتصر “سكينير” على مبدأ التّعزيز بشكله الإيجابيّ فقط؛ لتحقيق سلوكات إيجابيّة لها آثار بنّاءة على الفرد والمجتمع.
خاتمة
من ضمن القوانين المهمّة الّتي أسّسها “ويلهالم فونت”، علاوة على مساهمته الكبيرة بإدخال التّجارب المعمليّة على علم النّفس، “قانون النّواتج النّفسيّة”؛ والّذي يعرّفه فيقول: “..لكلّ تركيب نفسيّ صفات ليست أبدا مجرّد مجموع العناصر.”
و للمتسائل المجتهد أن يطرح سؤالا بسيطا حول مآل علم النّفس بعد مقرّرات التّوجّه السّلوكيّ في علاقته بهذا الإقرار التّاريخيّ في مراحل تطوّر هذا العلم؟
ربّما قد يكون هذا مجالا رحبا لمواضيع تبحث في هذا الصّدد و تؤسّس بالتّالي لفهم أشمل لهذا العلم الّذي استفادت منه التّربية خاصّة؛ غاية الاستفادة، عبر مكتسبات ما خلّفه أعلامنا الثّلاثة المذكورون، و غيرهم، من تراث علميّ يعتبر من الاكتشافات المفيدة للبشريّة قاطبة.