التعليم عن بعدمفاهيم

نحو تصور حديث لبرنامج تأهيل المدرسين: من علم التعليم إلى علم التعليم والتعلم

من خلال هذا العمل نضع بين أيدي القراء بعض المعطيات التي تترجم التطور الذي شهده ميدان تأهيل المدرسين و خاصة مدرسي اللغات الأجنبية. نركز على كلمة التطور لأننا نعتقد أن نوعية التأهيل الذي تلقيناه في عقدي الستينات و السبعينات و ربما حتى الثمانينات لم يعد كافيا للقيام بالعملية التعليمية على أكمل وجه. لقد ولى زمان التركيز الحصري على مواد علم النفس التربوي عند إعداد المعلمين و حل محله  زمن علم التعليم و التعلم ، و هذا لا يعني طبعا أنه تم الاستغناء أو التقليل من شأن تلك المواد. لقد أصبح ميدان علم النفس التربوي اليوم يمثل أحد مكونات علم التعليم و التعلم.

سنتناول في هذا البحث أهمية التكوين في مجال ” علم التعليم و التعلم ”  – ” الديدكتيك ”  لكل المعنيين بالعملية التعليمية و أحاول أن أجيب على السؤال التالي : ما هي الأسباب التي أدت إلى أن أصبح ” الديدكتيك ” أو ” علم التعليم و التعلم ” علما لا يمكن الاستغناء عنه سواء في برامج تكوين الشباب بصفة عامة أو إعداد المدرسين بصفة خاصة  ؟

يحتوي هذا البحث على النقاط التالية :

1 – المقصود بميدان  ” الديدكتيك ” أو علم التعليم و التعلم

2– من  ميدان “علم التعليم” إلى ميدان  ” علم التعليم و التعلم ” : نحو تصور جديد للعملية التعليمية

3 – ما الذي يميز طرق التدريس البنيوية عن طرق التدريس الاتصالية ؟

4 – إسهامات بعض العلوم المرجعية في تكوين ميدان ” علم التعليم و التعلم ”

5 – التكوين في ميدان ” علم التعليم و التعلم ” بين الإجبار و الاختيار

6– ميدان ” علم التعليم و التعلم ” و ميدان علم التربية : علمان ملتحمان

1 – ماذا يقصد بميدان  الديدكتيك ” ” La didactique ”  علم التعليم و التعلم “ ؟

إن كلمة  ديدكتيك  هي أساسا من أصل يوناني  تطلق على كل ما له علاقة بعملية التكوين و التدريس، و إذا استعملنا هذه الصفة كإسم فيقصد بها ما نسميه في اللغة العربية طرق التدريس  و نسميه علم التعليم في اللغة الإنجليزية و اللغة الفرنسية.

إن استعمال كلمة ” الديدكتيك ” بمعنى  طرق التدريس أو ” علم التعليم ”  يركز بصفة خاصة على ما يقوم به المدرس أثناء العملية التعليمية أي  أنها تترجم بوضوح المفهوم السائد لدور المدرس في العملية التعليمية في الستينات و بداية السبعينيات من القرن الماضي. تسمى تلك المرحلة في الدول الناطقة بالفرنسية بمرحلة تعليم اللغات  ( La période de la pédagogie des langues ) لأنه كان ينظر إلى المدرس على أنه الطرف الأساسي في العملية التعليمية. كان التركيز ينصب على كلمة تعليم ثم اتسع اهتمام المختصين في مجال التعليم ليشمل أيضا المتعلم باعتباره أحد العناصر الأساسية في العملية التعليمية. بتعبير آخر، منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي أصبحت كلمة ” الديدكتيك ” تعني ” علم التعليم و التعلم “. يمكن القول إذن أننا أمام مرحلتين من مراحل تعليم اللغة :

أ – مرحلة علم تعليم اللغات

كان تكوين مدرسي اللغات و تأهيلهم في هذه المرحلة يرتكز على الجانب اللغوي أي على القواعد التي تدير اللغة و كان المنهج يركز على ” ماذا ندرس ”  أما بالنسبة للجانب الذي يدخل في إطار طريقة التدريس” كيف ندرس”  فمنهجه يحتوي على طريقة شرح مختلف أجزاء الدرس و خاصة طريقة استعمال الوسائل التعليمية  مثل : اللوحة الوبرية و الرسومات و الأفلام الثابتة. لذلك يمكن أن نلقب فترة الستينات بفترة الوسائل التعليمية الجاهزة للاستعمال لأنه  – كما يقول مبتكرو هذه الطريقة – لبلوغ الأهداف المنشودة من العملية التعليمية ، نكتفي بتطبيق كتاب دليل المدرس حرفيا.

تسمى تلك المرحلة بمرحلة تعليم اللغات، كما تسمى كذلك بمرحلة علم اللغة التطبيقي   ( La période de la linguistique appliquée ) لأن علم اللغة كان يعد المرجعية الوحيدة التي يرتكز عليها ميدان تدريس اللغات الأجنبية في تلك الفترة..

و من الممكن القول  في هذا الخصوص أن طريقة التدريس التي كانت  مطبقة – و التي نسميها بالبنيوية – لازالت تستخدم من قبل  العديد من المدرسين بل و في كثير من مؤسساتنا التعليمية.

ب – مرحلة علم تعليم و تعلم اللغات

إنها المرحلة التي أعيد فيها اعتبار دور المتعلم في العملية التعليمية، و بذلك يمكن أن نقول أن هذه المرحلة شهدت تطورا على مستوى دور كل من المدرس و المتعلم، و قد تم تعريف علم التعليم و التعلم بطرق مختلفة نذكر منها:

  • عرف جي بروسو  Guy Brousseau  علم التعليم و التعلم على النحو التالي : « إنها الدراسة العلمية لعملية تنظيم المواقف التعليمية التي يمر بها المتعلم لبلوغ الأهداف المعرفية أو الحركية ».
  • عرف ميشال بيلييار  Michèle Bilière – في محاضرة ألقاها قي أكاديمية الدراسات العليا بجنزور – علم التعليم و التعلم على النحو التالي : « العلم الذي يهتم بمجموعة المعارف و المهارات التي لها علاقة بما يجري داخل فصول تعليم اللغات».

يمكن أن نقول من خلال هذين التعريفين أنهما يشيران إلى حدوث عملية تطور في طريقة تصور العملية التعليمية. بتعبير آخر، بينما  كانت العملية التعليمية ترتكز في  الماضي على الجانب التعليمي” علم التعليم “. أصبح التربويون يهتمون اليوم بكل ما من شأنه أن يساهم في عملية التعلم. فقد ركز جي بروسو  Guy Brousseau   – كما رأينا في التعريف – على المواقف التعليمية التي يمر بها المتعلم لبلوغ الأهداف المنشودة.  كما يمكن أن نلاحظ  أن هذا الباحث  ركز في التعريف على جانب التعلم أكثر من تركيزه على جانب التعليم. أما تعريف ميشال بيلييار  Michèle Bilière   فقد أخذ في عين الاعتبار المعارف و المهارات التي لها علاقة مع ما يحدث داخل الفصول الدراسية.

2 – من “علم التعليم ” إلى ” علم التعليم و التعلم “: نحو تصور جديد للعملية التعليمية

( De la linguistique appliquée à la didactique des langues : vers une nouvelle définition de l’action pédagogique )

إن الانتقال الذي حدث في ميدان تعليم اللغات  – من مرحلة علم التعليم إلى مرحلة علم التعليم و التعلم – جاء نتيجة  التطور الذي شهده هذا الميدان، و يظهر ذلك جليا على مستوى التصور الجديد للعملية التعليمية و خاصة في طبيعة الدور الذي أسند إلى المتعلم في تلك العملية.

إن المرحلتين اللتين عرفهما ميدان تعليم اللغات قد رافقهما تغير على مستوى طرق التدريس المستعملة و ذلك على النحو التالي:

المرحلة الواقعة في الربع الأخير من القرن الماضي و التي تسمى ” مرحلة علم اللغة التطبيقي ” حيث إن  طرق تدريس اللغات الأجنبية كانت ترتكز على نظرية علم اللغة البنيوي لأنها النظرية  اللغوية التي كانت سائدة في تلك الفترة.

إن الاعتماد بصفة كلية على علم اللغة البنيوي و على النظرية السلوكية في التعلم جعل الباحثين المتخصصين في مجال تدريس اللغات يهتمون بالإجابة على تساؤلات  مثل ” ماذا نعلم ”  و ” كيف نعلم  ” ؟

المرحلة المسماة ” مرحلة علم التعليم و التعلم ” و التي اتسمت بمجموعة من التغيرات التي من بينها تبني طرق تدريس اتصالية  و أصبح المتعلم يلعب فيها دورا جوهريا.

يمكن أن أقول في هذا الصدد أن إحدى الخصائص التي كانت تميز هاتين الفترتين هي أنه : في مرحلة علم التعليم ، كان المدرس يعتبر المحور الأساسي في العملية التعليمية و كانت عملية تأهيله تركز على معرفة قواعد اللغة و بنية الجملة. أما في المرحلة المسماة ” مرحلة علم التعليم و التعليم ” فقد أعيد اعتبار المتعلم كعنصر أساسي في العملية التعليمية.

إن أخذ ما يقوم به المتعلم أثناء عملية التعلم بعين الاعتبار يدل على أن ميدان تعليم اللغات الأجنبية أصبح يركز على طرفي العملية التعليمة أي المعلم و المتعلم. بتعبير آخر، يمكن أن نقول في هذه الحالة، أن عملية تفاعل بين عملية التعليم و عملية التعلم تجري في الفصل الدراسي. فبعد أن كان ينظر إلى دور المتعلم على أنه ينحصر في استقبال المعارف لحفظها عن ظهر قلب و استظهارها يوم الامتحان، أصبح المتعلم يمثل طرفا أساسيا في العملية التعليمية و يتفاعل مع عملية التعليم.

انتقل دور المتعلم –  كما قلت – من مستقبل للمعارف إلى مستعمل لتلك المعارف و المهارات التي لديه لفهم و استيعاب محتوى المادة العلمية حيث إن عملية الفهم و الاستيعاب تتطلب بل تشترط  – إن صح القول – القيام بنشاط ذهني من قبل المتعلم. و يتمثل هذا النشاط في توظيف المعارف التي لديه لفهم المعارف الجديدة.

و هكذا يمكن أن نقول أن العصر الحالي يشهد تطورا على مستوى التصور الذي نوليه للعملية التعليمية، فبعد أن كان برنامج إعداد المدرسين يركز فقط على معرفة قواعد اللغة، أصبح المقرر الدراسي يحتوي كذلك على نظريات تدخل في إطار طرق التعلم و خصائص المتعلمين.

يمكن أن نضيف هنا أن عملية الانتقال من ” علم التعليم ”  – و الذي كما قلت يركز على قواعد و بنية الجملة  – إلى ” علم التعليم و التعلم ”  و الذي يهتم أكثر بالجانب الاتصالي للغة ، جاءت نتيجة الفشل الذي لاحظه المختصون في ميدان علم التعليم و التعلم و خاصة مدرسو اللغات الأجنبية عند استعمالهم لطرق التدريس البنيوية. لقد كانت الكفاءة اللغوية للسواد الأعظم من المتعلمين –  الذين درسوا بالطريقة البنيوية –  تنحصر في معرفة قواعد اللغة و تكوين جمل صحيحة من الناحية النحوية. لتجاوز هذه الإشكالية و التغلب عليها، أدرجت الكثير من الدول في برنامج إعداد المعلمين قضاء دورات لغوية تهدف إلى تمكين المدرسين الذين لا يزالون تحت التأهيل من استعمال اللغة الأجنبية مع أصحاب اللغة خلال فترة الدورة.

إن عدم نجاح طرق التدريس البنيوية في جعل المتعلم يتحدث بلغة أجنبية  – كما رأينا – قاد المختصين إلى اقتراح طرق تدريس  تسمى اتصالية  ( l’approche communicative ) حيث تختلف طريقة التدريس هذه عن سابقتها على المستويين النظري و التطبيقي.

3 – ما الذي يميز طرق التدريس البنيوية عن طرق التدريس الاتصالية ؟ 

تحدثت إيفلين بيرار Evelyne Bérard   في كتابها : « طرق التدريس الاتصالية : النظرية و التطبيق » عن  التطور الذي شهده ميدان علم التعليم و التعلم مركزة على الاختلافات الموجودة بين طريقة التدريس البنيوية التي ظهرت – كما ذكرت –  في مرحلة كان فيها ميدان تعليم اللغات الأجنبية متأثرا فقط بعلم اللغة التطبيقي، و طريقة التدريس الاتصالية التي بدأ تطبيقها في الربع الأخير من القرن الماضي. تقول إيفلين بيرار  Evelyne Bérard في هذا الخصوص: « تمتلك طرق التدريس الاتصالية ، عند مقارنتها بطرق التدريس السمعية – البصرية ، خاصية التنوع من حيث المصادر النظرية التي ترتكز عليها. و لقدحدثت عملية التنوع هذه في زمن لم يعد فيه ميدان علم اللغة متأثراثراأ بنظرية لغوية واحدة -و هي نظرية علم اللغة البنيوي-  و لكنه أصبح يعتمد كمرجعية  لمجموعة من العلوم ذات مواضيع دراسية مختلفة مثل : علم اللغة الاجتماعي ، علم اللغة النفسي ، علم ثقافة الاتصالات ، علم تحليل الخطاب ، علم دراسة استعمالات اللغة…. ».

يمكن القول – من خلال هذا الاقتباس – أن الانتقال من طرق التدريس البنيوية إلى طرق التدريس الاتصالية لم يحدث على مستوى المصطلحات فقط و لكنه حدث  – كما قلنا – على مستوى النظريات التي يرتكز عليها نتيجة تبنيه تصورا جديدا للعملية التعليمية و التي من أهم خصائصه التنوع على مستوى المراجع  أو الأسس النظرية. و يرمي هذا التنوع إلى إحداث عملية توافق و انسجام بل و تطابق بين محتوى المنهج الدراسي و طريقة التخاطب اليومية المستعملة من قبل أصحاب اللغة.

بتعبير آخر كان ميدان تعليم اللغات الأجنبية  يرتكز فقط – في مرحلة علم التعليم  – على علم اللغة البنيوي الذي يهتم بالجانب القواعدي أكثر من اهتمامه بالجانب التعبيري، و ابتداء من نهاية القرن الماضي، أصبح هذا الميدان يعتمد على مجموعة مختلفة من العلوم  و يدخل من ضمن اهتماماته عملية استعمال اللغة في الحياة اليومية. في هذا الخصوص ذهب جان بيار روبار   JEAN – Pierre Robert  إلى حد القول إن علم التعليم و التعلم يرتكز على : «  حصيلة من العلوم مثل : طرق التدريس و علم التربية و علم النفس و علم الاجتماع بالإضافة إلى علم اللغة  ».

إن هذا  المزيج من العلوم التي يتكون منه ميدان علم التعليم و التعلم يجعلنا نتصور درجة التطور التي شهدها ميدان تكوين المدرسين الذي كان يرتكز فقط على ما نسميه بمواد التربية و علم النفس. إن اعتمادنا الكلي على تدريس هذه المواد و إهمالنا للمواد التي لها علاقة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالعملية التعليمية -و نذكر على سبيل المثال ميدان علم النفس المعرفي- هو الذي حال دون إنجازنا العملية التعليمية على أفضل وجه.

4 – إسهامات بعض العلوم المرجعية في بناء ميدان  علم التعليم و التعلم “

يمكن أن يتساءل البعض عن طبيعة المساهمات التي قدمتها العلوم المرجعية إلى علم تعليم و تعلم اللغات الأجنبية، و يدفع هذا التساؤل إلى الاطلاع على النصوص المتخصصة في تلك العلوم.  سنكتفي في هذا العمل بالتركيز على الإسهامات التي قدمها ميدان علم النفس المعرفي لميدان علم التعليم و التعلم  و سنتناول ثلاث نقاط تدخل في إطار هذا العلم و هي :

  • بعض المفاهيم التي يمكن الاستفادة منها للتعرف على مصدر بعض الصعوبات التي يلاقيها المتعلمون.
  • المعلومات  الأولية و دورها في فهم محتوى المقرر الدراسي.
  • تصنيف جاك ترديف للمعارف و أهميته لتحليل الصعوبات التي يلاقيها المتعلمون.

أ- بعض المفاهيم التي يمكن الاستفادة منها للتعرف على مصدر بعض الصعوبات التي يلاقيها المتعلمون

ينبع اهتمامنا بميدان علم النفس المعرفي من كونه – أولا – يحتوي على مجموعة من المفاهيم التي من شأنها أن تساعد المدرسين  على تأدية واجباتهم اليومية، بل و تجعلهم قادرين على فهم مصدر بعض  الصعوبات التي يمكن أن يلاقيها المتعلمون و العمل على تذليلها،  و –ثانيا- يزود ميدان علم النفس المعرفي المدرسين  بأفكار يمكن أن تساعدهم على فهم كيفية حدوث آلية عملية التعلم مما يسمح لهم بتبني الطريقة التعليمية المناسبة.

  • بعض المفاهيم التي يمكن أن نستقيها من ميدان علم اللغة المعرفي :

– وجود  ما يسمى ” المرشحات الذهنية” لدى المتعلم: إن طريقة استجابة هذه المرشحات عند تعاملها مع المعلومة هي التي تجعل عملية التعلم سهلة أو صعبة.

– مفهوم ” الإنهاك الذهني “: إن قدرة احتفاظ المتعلم بالمعارف في نفس الوقت محدودة مما يجعل التركيز على نفس الموضوع لمدة طويلة صعبة.

– مفهوم  ” النقص أو العجز في المعلومات “: هو الفارق بين المستوى الذي بلغه المتعلم من المعلومات و المعلومات الواجب امتلاكها لكي تتم عملية التعلم.

– مفهوم  ” منطقة النمو القريبة” لعالم النفس التعليمي فيغتسكي  Lev Semionovitch Vygotski   تقع هذه المنطقة بين مستوى النمو المعرفي الذي يبلغه المتعلم عندما يقوم بإنجاز المهام الدراسية لوحده و مستوى النمو الذي يبلغه المتعلم عندما يتعلم برفقة شخص آخر أكثر منه خبرة. يؤكد ليف فيغتسكي  Lev Semionovitch Vygotski  من خلال هذا المفهوم ليس على أهمية دور المدرس فحسب، بل على مرافقة الطفل في عملية التعلم، و يذهب ليف فيغتسكي  Lev Semionovitch Vygotski إلى حد القول – استنادا على هذا المفهوم  – إن عملية التعلم تسرع عملية النمو.

ب- المعلومات  الأولية و دورها في فهم محتوى المقرر الدراسي

إن اهتمامنا بميدان علم النفس المعرفي ليس نابعا من كونه يحتوي على العديد من المفاهيم التي يمكن أن تساعدنا على فهم مصدر بعض الصعوبات التي يمكن أن يلاقيها المتعلمون فقط، و لكنه نابع من احتوائه على أفكار من شأنها أن تساعدنا على فهم آلية عملية التعلم أيضا. إن من أهم الأفكار التي يمكن أن نستقيها من ميدان علم النفس المعرفي هي تأكيده على دور المعارف الأولية في فهم محتوى المقرر الدراسي، فعملية فهم محتوى المادة العلمية أو عدم فهمها، مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى امتلاك المتعلم للمعارف الأولية. لقد عبر فرانك سميث   Frank  Smith في كتابه المعنون : « الفهم و التعلم »   عن تلك العلاقة و عن دور المعارف الأولية في عملية الفهم قائلا : ” الفهم هو عبارة عن عملية إعطاء معنى للأشياء “و تتم عملية الإعطاء للمعنى باستعمال المتعلم للمعارف الأولية. يذهب هذا الباحث إلى أبعد من ذلك حين يقول : ” إن المعنى لا يأتي من النص إلى المستمع أو القارئ؛ إن القارئ هو الذي يأتي بالمعنى للنص “ في نفس السياق عرف كل من هـنري  بوايير و ميشال بوزباش – ريفارا   H. Boyer et M. Butzbach –Riveraعملية الفهم بأنها: ” عبارة عن إنتاج لمعنى و ليست عملية تلقي و استقبال “.

تبرز لنا هذه الاقتباسات مدى أهمية المعلومات الأولية و التي تعد شرطا أساسيا لعملية فهم المعارف الجديدة، و قد أصبحنا نتكلم اليوم عن عملية بناء المعلومة من طرف المتعلم.

ج – تصنيف جاك ترديف للمعارف و أهميته لتحليل الصعوبات التي يلاقيها المتعلمون

بعدما تعرضت لبعض المفاهيم التي يمكن اعتبارها أدوات ذهنية نستعملها لتحليل بعض الصعوبات و فهمها بل و اقتراح بعض منها لمساعدة الطالب على التغلب على الصعوبات التي يمكن أن تعترضه أثناء عملية التعلم، ثم تطرقت إلى دور المعلومات الأولية في فهم محتوى المقرر الدراسي، ننهي حديثنا عن إسهامات علم النفس الإدراكي لميدان علم التعليم و التعلم بذكر التصنيف الذي وضعه جاك ترديف Jacques Tardif  عند دراسته لأنواع المعارف في كتابه المعنون :  نحو تعليم استراتيجي : إسهامات علم النفس المعرفي . فقد قام  جاك ترديف بعملية تمييز بين ثلاثة أنواع من المعلومات وقدمها على الشكل التالي:

  • المعلومات القولية أو التصريحية: و هي المعلومات التي تدخل في إطار الأقوال  كذكر اسم مدينة أو عاصمة بلد أو قاعدة نحوية أو حتى  قانون المرور .إن كل ذلك يدخل في إطار القول
  • المعلوماتالإجرائية: و هي المعلومات التي تدخل في إطار الأفعال كمعرفة طريقة كتابة رسالة و معرفة كيفية قيادة سيارة و معرفة رسم خريطة دولة معينة، و القدرة على كتابة نص في زمن معين مثل المستقبل. إن كل هذه المعلومات تدخل في إطار الفعل و ليس القول أو إن شئنا التطبيقي لا النظري.
  • المعلومات الشرطية: و هي المعلومات التي تدخل في إطار الإجابة عن الأسئلة الآتية: متى و لماذا ؟ و كمثال على ذلك نذكر كيفية التمييز بين المثلث و المستطيل، التمييز بين طريقة كتابة الرسالة المرسلة إلى صديق و الرسالة المرسلة إلى مدير إدارة، التمييز داخل نص بين ما هو رئيسي و ما هو ثانوي، و أخيرا  القاعدة التي نرتكز عليها لكتابة الهمزة  في الكلمات التالية: المؤثر – متأثر – ثائر.

يمكن اعتبار تصنيف جاك ترديفJacques Tardif    للمعارف أداة  يمكننا  بفضلها الآن الإجابة على بعض الأسئلة التي كثيرا ما نطرحها  نحن المدرسين و التي تبقى عادة بلا إجابة مثل :

– لماذا يرتكب بعض الطلبة أخطاء على مستوى الأفعال عند كتابتهم لموضوع إنشاء في زمن الماضي على الرغم من أنهم قادرون على تصريف الأفعال نفسها في الماضي خارج إطار النص ؟

  • لماذا يرتكب كثير من الطلبة أخطاء إملائية عند كتابتهم للهمزة  ؟.

5 – التكوين في ميدان ” علم التعليم و التعلم ” بين الإجبار و الاختيار

على الرغم من أننا لم نقم بعرض جميع العلوم المرجعية لعلم التعليم و التعلم ، فإننا نستطيع أن  ندرك من خلال ما عرضناه درجة أهمية هذه العلوم و التي كما سبق و نوهنا ليست ضرورية لمدرسي اللغات فقط و لكن لكل من يقوم بالعملية التعليمية. في الواقع ، و كما تقول ماري فرنسواز  نانسي كومب    Marie – Françoise Nancy – Combe   :  « تضاف المعارف التي تشكل علم اللغة التعليم و التعلم إلى العلوم المنهجية لتمكن المدرس من بناء مسار تعليمي متوافق مع رغبات المتعلمين و إمكانياتهم و ذلك باعتماد أسلوب علمي في التعليم ؛ و هو ما من شأنه كذلك أن يدعم مصداقية و فعالية العملية التعليمة ».

يبرز الاقتباس السابق الذكر أهمية المعارف التي تدخل في إطار علم التعليم و التعلم  ، حيث إنها تمكن المدرسين -كما تقول ماري فرنسواز  نانسي كومب  Marie – Françoise Nancy – Combe- من بناء مسار تعليمي متوافق مع رغبات المتعلمين و إمكانياتهم. بتعبير آخر، إن تأهيل المدرسين في علم التعليم و التعلم لم يعد خيارا نتبناه أو نتركه أو هو شأن تخصص معين و لكن –  نستطيع القول-  العمود الفقري في برنامج تأهيل المدرسين. إن المعارف التي يمكن أن نستقيها كمدرسين من هذا العلم تمكننا من معرفة أسباب بعض الصعوبات التي يلاقيها المتعلمون و تجعلنا أكثر قدرة على فهم المواقف التعليمية و ذلك بفضل المزيج من العلوم الذي يرتكز عليها ميدان علم التعليم و التعلم. إن التكوين في ميدان علم التعليم و التعلم أصبح اليوم ضرورة و يدخل في إطار الإجبار لكل من يقوم بمزاولة مهنة التعليم، هذا إذا أردنا أن نؤمن تعليما يرتكز على المعطيات العلمية.

لقد تطرقت ماري فرنسواز  نانسي كومب كذلك إلى هذا الموضوع، ليس من جانب الاختيار أو الاجبار و لكن باعتباره شرطا لإنجاز عملية تعليمية ناجحة، لأنه يصبح بحوزة المدرس مجموعة من العلوم التي تساعده على « فهم ما يقوم به المتعلم ذهنيا أثناء عملية التعلم  ، و كذلك فهم المواقف التعليمية التي تحدث داخل الفصل الدراسي و تساعده كذلك على بناء منهجية فعالة للتعامل مع تلك المواقف ».

لم يبق الحديث الآن متمركزا حول تطابق عملية التعلم لعملية التعليم. بل العكس هو الذي يجب أن يحدث، فعلى المدرس أن يعمل على أن تكون استراتيجية عملية التعليم متطابقة مع استراتيجية عملية التعلم. إن عدم الأخذ بهذا المبدأ هو أحد  الأسباب في كثير من حالات فشل العملية التعليمية. لقد تطرقميشال بيلييار إلى هذا الموضوع عندما ذكر بعض التساؤلات التي يطرحها المتخصصون في ميدان علم التعليم و التعلم لبناء استراتيجية تعليمية ناجحة و التي من بينها : « ما هي المعارف و المعلومات التي يمتلكها المتعلمون و التي تسمح لهم بتعلم لغة أجنبية بطريقة تدريجية ؟ »، فنقطة الانطلاق إذن في كل عملية تعليمية ناجحة يجب أن تكون المعلومات التي يمتلكها المتعلم فعلا و ليس مما هو موجود داخل كتاب المقرر الدراسي، بل حتى عملية تحديد الأهداف المنشودة من عملية التعلم، يفترض أن تصاغ وفقا  للمستوى الفعلي للمتعلم و ليس على أساس المستوى الذي يفترض أن يكون قد بلغه. إن ضرب عرض الحائط بالمستوى الفعلي للمتعلم، و اعتبار أن كل عملية تعليم تؤدي بالضرورة إلى عملية تعلم هي نقطة البداية لفشل العملية التعليمية.

قد يتساءل بعض القراء حول مدى إمكانية تطبيق هذه الطريقة في التعليم في وقت يوجد فيه مقرر معين يجب تدريسه. نجيب على هذا التساؤل كما يلي: نعتقد أنه لا ضير من تخصيص أسبوعين دراسيين إذا كان ذلك يساهم في إنجاح العملية التعليمية على أن يكرس هذين الأسبوعين لتزويد المتعلمين بالمعلومات أو لنقل للقيام بعملية تنشيط للمعلومات التي تمكن المتعلمين من استيعاب المقرر الدراسي الجديد.

6 – علم التعليم و التعلم و علم التربية : وحدة ملتحمة

إن السؤال التقليدي الذي يمكن أن يفرض نفسه هو: ما هو الفرق بين طبيعة العلاقة بين علم التعليم و التعلم و علوم التربية أو ماهيتها؟ إننا نعتمد للإجابة على هذا السؤال على كتاب آلان ريونيي  Alain Rieunier   بعنوان ” تحضير درس : الإستراتيجيات التربوية الفعالة “ حيث نجد في هذا الكتاب تعريفين مختلفين لعلم التربية يقدمان تصورين مختلفين لهذا العلم :

  • علم التربية هو فن إلقاء الخطاب.
  • علم التربية هو العلم الذي يهتم بالعمليات التي تهدف إلى تسهيل عملية التعلم و رفع قدرة المتعلم على معالجة المعلومات و جعله أكثر فعالية و استقلالية في حياته اليومية.

يشير محتوى هذين التعريفين إلى درجة التطور الذي حدث في ميدان هذا العلم. يركز التعريف الأول على عملية إلقاء المادة التعليمية ، و على عملية التعليم و يحصرها في عملية الإلقاء.

أما بخصوص التعريف الثاني، فيمكن أن نقول:

  • أخذ في عين الاعتبار طرفي العملية التعليمية أي المعلم و المتعلم، فهو يبرز – من ناحية – دور المعلم الذي يتمثل في تسهيل عملية التعلم، و يقدم – من ناحية أخرى  – المتعلم على أنه الشخص المعني بالعملية التعليمية.
  • أشار إلى أن علم التربية لا يهتم فقط بعملية إلقاء العلوم المنهجية، و لكنه يهدف أيضا إلى جعل المتعلم مستقلا أثناء تعلمه و ذلك بتزويده بالأدوات التي من شأنها أن تسمح له بالتعامل لوحده مع مختلف مصادر المعرفة.
  • ما يمكن أن نضيفه من خلال قراءتنا للتعريف الثاني هو أنه لا يشير إلى موضوع دراسة هذا العلم فقط و لكن إلى وجود اختلافات بين علم التربية و بقية العلوم المرجعية لعلم التعليم و التعلم أيضا. يكمن هذا الاختلاف في مستوى ماهية العلم أي على المستوى النظري و ذلك باعتبار أن أكثر اهتمام علم التربية ينصب على الجانب التعليمي اليومي.

إن الاختلاف الموجود بين علم التعليم و التعلم و علوم التربية على المستوى النظري يقابله تكامل على المستوى العملي. تقول  فرنسواز  نانسي كومب في هذا الخصوص : « إن  علم التعليم و التعلم و علم التربية هما علمان مرتبطان أشد الارتباط، و إذا لم يؤد علم التعليم و التعلم إلى تطبيقات تربوية معينة فلا جدوى من ورائه. و بالمثل ،  فإن التطبيقات التربوية التي لا ترتكز على علم التعليم و التعلم تتعرض لخطر غياب الانسجام بين معطياتها  و بالتالي إلى غياب فاعليتها ».

و تقول فرنسواز  نانسي كومب أيضا لتبيان طبيعة العلاقة بين التعليم و التعلم وعلوم التربية عند تعريفها للعملية التعليمية:  « ينظر إليها  على أنها عملية ذات حركة مستمرة تحدث بين مواقف تعليمية ( علم التربية ) و الإسهامات النظرية لمختلف العلوم المعنية و المكونة لميدان علم التعليم و التعلم ».

و نقول قبل الإنتهاء من هذا العمل، إن إيرادنا لعدد هائل من الاقتباسات يدل على درجة الأهمية التي تحظى بها  – في الوقت الحاضر- العمليات التي تدخل في إطار عملية التعلم. تبرز تلك الاقتباسات كذلك مدى تنوع العلوم المرجعية لعلم التعليم و التعلم ليشمل كل العلوم التي يمكن أن تساعد المدرس على تحليل مختلف المواقف التعليمية و فهمها، و كذلك التعرف على العوامل التي من شأنها أن تساعد أو تعيق عملية الفهم لدى المتعلمين ، و أخيرا ، العلوم التي يمكن أن تكون لها علاقة غير مباشرة بالعملية التعليمية  مثل علم الطب.

الخاتمة

في الختام ، نقول و نؤكد على ضرورة امتلاك معارف في ميدان علم التعليم و التعلم لكل من يزاول مهنة التدريس و ذلك – كما قلنا – لتمكين الأساتذة  من الأدوات التي تساعدهم على إدارة العملية التعليمية بطريقة فعالة و ذلك بجعل عملية التعليم متطابقة لعملية التعلم.

لعلنا استطعنا من خلال هذا العمل المتواضع أن نرسم الخطوط العريضة لطبيعة التكوين الذي يفترض أن يتلقاه المدرسون في إطار النظرة الحديثة للعملية التعليمية و التي تجعلنا ننتقل من :

  • نموذج المدرس الذي يرى ن دوره أ أن دوره ينحصر في إرساله للمعارف إلى نموذج المدرس الذي يلعب دور الناصح و الموجه للمتعلمين و بالتالي المسهل للعملية التعليمية.
  • من نموذج المدرس الذي يعتبر الأخطاء المرتكبة من قبل المتعلمين تستوجب العقاب إلى نموذج المدرس الذي يتعامل مع الأخطاء بطريقة إيجابية و ذلك باعتبارها دليلا أو ترجمة لمدى استيعاب المتعلمين للمادة العلمية.
  • من نموذج المدرس الذي يشتكي دائما من تدني مستوى المتعلمين إلى نموذج المدرس الساعي دائما إلى معرفة أسباب تدني مستواهم و الساعي في نفس الوقت لإيجاد الحلول.
  • من نموذج المدرس الذي يرى أن العملية التعليمية تسير في اتجاه واحد إلى نموذج المدرس الذي يرى أن العملية التعليمية هي ذات صبغة تفاعلية.
  • من نموذج المدرس الحريص على إتمام المقرر الدراسي إلى المدرس الحريص على استيعاب المقرر الدراسي من قبل المتعلمين.
  • من نموذج المدرس الذي يرى أن المتعلم يلعب دور المتلقي في العملية التعليمية إلى نموذج المدرس الذي يرى أن المتعلم يجب أن يلعب دورا إيجابيا في العملية التعليمية.

إن  النماذج  المختلفة التي أتيت على ذكرها تدخل كلها في إطار  الفلسفة أو الرؤية التربوية الجديدة التي يفترض أن يرتكز عليها بل و يرمي إلى بلوغها برنامج تأهيل المدرسين. لذلك نوصي الكليات المختصة بتزويد المدرسين الذين هم تحت التكوين و التدريب بالتأهيل الأكاديمي و التربوي المناسبين لتمكينهم من القيام بدورهم في أحسن الظروف، و نشدد على استعمال كلمة تمكين لأن عملية التأهيل لا تنحصر في دراسة مقرر معين و استظهاره يوم الامتحان و لكن لا بد أن يترجم هذا التأهيل إلى سلوك يومي.

إغلاق