افكار ومهارات

بيداغوجية الفصل المقلوب أو المعكوس

الفصل المقلوب أو المعكوس أو البيداغوجية المعكوسة La classe inversée ou renversée »   ويدعى في اللغة الانجليزية (flipped classroom)، عبارة عن مقاربة بيداغوجية تقوم بقلب طبيعة أنشطة التعلم التي تتم في الفصل الدراسي أو البيت، مما يقود إلى تغيير الأدوار التقليدية للتعلم. وما يبرر التوجه نحو هذه البيداغوجية الجديدة، هو التعلم غير النظامي الذي أصبح أكثر فأكثر جزءا من تجربة كل شخص في حياته، خلال القرن الحادي والعشرين، الذي يشهد تغيرات سريعة تتطلب من الفرد التعلم الذاتي، الدائم والمستمر. هذا فضلا عن أن التكنولوجيا الحديثة ما فتئت تغير من أسلوب حياتنا وطبيعة تفكيرنا، مما يفرض عدم الاقتصار على التعلم الرسمي الذي يلقن في المدارس والذي أصبح يعاني، في العديد من الأحوال، القصور وعدم الملاءمة لمتطلبات الحياة الاجتماعية والثقافية الجديدة التي يعرفها هذا القرن.

ومن هنا، اكتسب مفهوم ” الفصل المعكوس” انتشارا واسعا بين المدرسين في العديد من دول العالم، مما جعلهم يحدثون تغييرا في ” تنظيم فصولهم الدراسية “، والانتقال إلى نموذج تعليمي عملي فعال، وأكثر إنسانية واهتماما بالمتعلم. فما هو الفصل المقلوب أو المعكوس أو البيداغوجية المقلوبة؟ وما هو منطلقه الأساس ؟ وما هي المزايا التي يحققها للمعلم والمتعلم ؟

ينطلق هذا النموذج التعليمي من فكرة بسيطة، وهي أن الوقت الثمين المخصص للفصل الدراسي، من الأفضل استخدامه للتفاعل والعمل الجماعي، عوض ترك شخص واحد يتحدث خلاله. إنها مقاربة بيداغوجية مفادها أن ” التلميذ هو الذي يتعلم” ومن ثمة، ينبغي خلق الشروط المشجعة له على التعلم المستدام.

وبعبارة أخرى، فإن الفصل الدراسي المقلوب، يجعل التلاميذ يراجعون دروسهم في بيوتهم حتى تكون الأنشطة التعليمية ـ التعلمية في فصول المدرسة واضحة وملموسة بالنسبة إليهم. وخلال وجودهم في الفصل ” للتعلم” لن يقوموا سوى بإنجاز تمارين تطبيقية والاكتشافات المتعلقة بالموضوع، أي العمل على تعميق الفهم. ولم يعد المدرس هو الذي يحضر المعلومات، ولكنه يقوم بمساعدة التلميذ على استيعاب المفاهيم الأساسية. وسيتاح للمدرس وقت أكبر، لمتابعة حالات كل تلميذ. فالمدرس إذن يقوم بدور المرافق والمرشد خلال تعلمات التلاميذ.

الواقع أنه من السابق لأوانه إصدار حكم عام، بشأن الفائدة التي يمكن الوصول إليها خلال تطبيق هذه المقاربة. فالحكم عليها يختلف باختلاف فئة الطلاب، من الناحية الاجتماعية، وباختلاف مستوياتهم الدراسية، ونوع مدارسهم ومدرسيهم. وترى بعض الأبحاث أن من بين المزايا الأساسية لهذه المقاربة أن البيداغوجية الفعالة التي تعطي الفاعلية للمتعلم في بناء معارفه ترافقها في عمقها.

أولا: مزايا البيداغوجية المقلوبة أو المعكوسة

 على الرغم من اختلاف الأحكام حول هذه البيداغوجية الجديدة، إلا أن العديد من الممارسين لها يجمعون على توافرها على مجموعة من المزايا التي لا يمكن إنكارها:

  • تكسب المتعلمين كفايات مفيدة لمتابعة تعليمهم وتكوينهم مدى الحياة؛
  • يغدون بفضل التمرس عليها، قادرين على العمل في فريق؛
  • يتمكنون من القدرة على شرح وتفسير ما فهموه وتعلموه لغيرهم؛
  • يصبحون قادرين على التعلم الذاتي باستخدام موارد معرفية مختلفة كالكتب أو الانترنت أو أي شيء آخر؛
  • تعود التلميذ والمدرس على السواء على العمل الفردي؛
  • إنها طريقة تسمح بتشغيل التلاميذ أكثر من أي طريقة تعليمية أخرى؛
  • إنها تخفف عبء العمل على المعلم ولا تجعل منه العازف المنفرد في الفصل الدراسي. فهي تنقل مركز النشاط وفاعلية التعلم إلى التلميذ نفسه؛
  • تحرر المعلم من العمل الروتيني اليومي في إعداد الدروس، وتقلل من أوراق التصحيح لتجعله يبتكر أكثر ويبدع ويستقصي الموارد المعرفية التي يوجه إليها تلاميذه؛
  • إنها طريقة تجعل المعلم يهتم أكثر بالمتعلمين ويمارس البيداغوجية الفارقية التي تعترف باختلاف المتعلمين وتعدد أساليبهم في التعلم، وفق قدراتهم واستعداداتهم العقلية (أوزي، 1999).

إن النموذج التقليدي للتعليم ينبني على تقديم محاضرات أو إلقاء عروض يشرح المدرس خلالها موضوعا معينا، يليه تكليف التلاميذ بإنجاز الواجبات في البيت. فالذي يبحث عن المعلومات ليس هو المتعلم، وإنما هو المعلم. أما وأن المعلومات والمعارف غدت اليوم في متناول الجميع، بفضل تكنولوجيا الإعلام والاتصال. فإن من المنطقي أن يبحث عنها التلميذ الذي يحتاج إليها وليس المعلم. ومن هنا، فإن نموذج الفصل المقلوب أو المعكوس يركز على التلاميذ ويمكنهم في ” السيرورة التعليمية “. فهي طريقة وأسلوب يمارس البيداغوجية والتعلم الفعال، الذي يتصف بطابع التركيب والتجميع والتنظيم الذاتي. ولا يعتبر المتعلم جهازا مستقبلا ومجمعا للمعلومات، أو نظاما ذهنيا سلبيا، وإنما هو عنصر فعال يساهم مع شركائه ومع الأدوات الذهنية والموارد المعرفية التي يتوافر عليها في البناء الفعال للمهارات والكفايات الضرورية (أوزي، 2015).

في الفصل المقلوب، هناك مرحلتان متتاليتان:

المرحلة الأولى، وخلالها يتعلم التلميذ درسه في البيت، وفق طرائق وأشكال مختلفة:

ـ فقد يتم ذلك عبر الكتاب المدرسي أو بالاعتماد على وثائق مختلفة؛

ـ عرض أشرطة الفيديو أو غيرها؛

ـ استخدام مختلف الأدوات الرقمية؛

ـ القيام بقراءات مقترحة من قبل المدرس أو مجموعة من المدرسين.

المرحلة الثانية، خلالها يحاول التلميذ في الفصل أن يطبق المعارف المكتسبة في البيت بجهده، حيث يقوم بإنجاز تمارين يقترحها المدرس. وفي هذا الوضع التعليمي، فإن الانتباه لم يعد مركزا على المدرس، وإنما على التلاميذ الذين يتفاعلون فيما بينهم، ويساعد بعضهم بعضا. ومن شأن ذلك، أن يجعل المدرس يركز اهتمامه على التلاميذ الذين يعانون بعض الصعوبات.

ومن هنا، فإن دور المدرس سيكون هو مرافقة المتعلم خلال القيام بأعمال معقدة. والوقت المخصص للفصل يمكن أن يستخدم في أنشطة أخرى تنبني على التعلم عن طريق البيداغوجية الفارقية أوالتعلم بطريقة المشروع أو غيرها من الطرائق البيداغوجية التي أبانت عن جدواها. كما يتأتى للمدرس أن ينظم أنشطة مشاريع جماعية تساعد التلاميذ على التواصل فيما بينهم. كما ينمي لديهم الثقة في الذات عبر فرص التعبير عن آرائهم. وتشجيع التفكير الابتكاري عن طريق العصف الذهني الذي تتيحه عرض الآراء ووجهات النظر حول مشكلة تعليمية معينة.

وهكذا، وبمساعدة المدرس سيستطيع التلميذ أن يكون صورة أكثر وضوحا عن المعلومات التي شرع يكتسبها بنفسه.

يرى إيريك مازور (Eric Mazur)، أستاذ الفيزياء بجامعة هارفارد، أنه على عكس الفصل التقليدي، فإن المدرسين، في هذا النموذج التعليمي الجديد، سوف لا يبذلون جهدا ويستنفذون طاقة كبيرة في المرحلة الأولى. فالتلاميذ بوسعهم الاعتماد على أنفسهم للقيام بذلك. إن الوصول إلى المعلومات في القرن الحادي والعشرين، غدا أمرا سهلا، بفضل ما تتيحه الإنترنت أو أقراص خاصة من إمكانيات.

هذا، وسيجعل الفصل الدراسي المعكوس الأنشطة الدراسية أكثر ترفيها. وسوف يتاح للمدرس وقت أكثر للقيام بمختلف الأعمال في الفصل، لتوجيه التلاميذ ومساعدتهم خلال فترة استيعابهم للمعلومات وابتكار أفكار جديدة.

إن هذه الطريقة تسمح للتلاميذ في الفصل الدراسي، إنجاز أعمال تعاونية لحل المشكلات التي يواجهونها. يقول إريك مازور في كتابه (تعليم الأقران، 1997) (Peer Instruction): ” ليس هناك طريقة تساعد على توضيح الأفكار غير اللجوء إلى شرحها للآخرين”. كما يقول: ” أراهن في الفصل على التفاعل، أطرح الأسئلة، وعلى التلاميذ مناقشتها مع زملائهم الموجودين بجانبهم ومحاولة إقناعهم…”.

 

ثانيا: نظرة تاريخية عن مقاربة الفصل المقلوب أو المعكوس

ليست فكرة ” الفصل المقلوب أو المعكوس” فكرة جديدة، فقد تم الحديث عنها في العديد من الجامعات في العالم. وقد تم استخدامها منذ عدة قرون ! ففي السمينار يُـطالب الطلاب عادة بتحضير نص أو قراءة مقال قبل مناقشته في الفصل، ولم يقم الفصل المعكوس سوى بتعميم هذا الإجراء. إن قلب أو عكس فصل دراسي، معناه قلب الطريقة التي يتم بها التعليم عادة. إذ خلال طريقة قلب الفصل يُطالب التلاميذ بالاطلاع على المحتوى الدراسي قبل القدوم إلى المدرسة، حتى يتاح لهم القيام بتطبيقات وأجرأة المفاهيم. وبذلك يستطيعون التأكد من تحقيق الفهم الجيد لمكتسباتهم التعلمية.

تتم عملية التعليم في النموذج التقليدي على مرحلتين: المرحلة الأولى، وفيها يتم نقل المعلومات، بحيث ينقل المدرسون المعلومات إلى التلاميذ، ثم يقوم التلاميذ باستيعابها، وينبغي عليهم أن يتمكنوا من استخدامها في حل التمارين. وأحد المشكلات التي يطرحها هذا النموذج التعليمي، أنه يعطي الدور الفعال للمدرس، والدور السلبي للتلميذ. وبقدر ما يكون المدرس فعالا، فإن التلميذ يكون في وضع سلبي، ولا يشارك في سيرورة التعلم. ويسعى الفصل الدراسي المعكوس إلى قلب هذه الأدوار، بحيث يعطى للتلميذ الفعالية والإيجابية.

تمت التجارب الأولى في هذه المقاربة التعليمية الجديدة، على يد إريك مازور خلال السنوات 1990، كما طبقت المقاربة في كل من أمريكا وكندا، ثم بدأ تجريبها في فرنسا على يد بعض الباحثين. وقد لاحظ كل من برجمان وزميله سامس (J.Bergmann et A. Sams )  أنه بفضل استخدام هذه المقاربة ارتفعت درجات التلاميذ وتحسن تحصيلهم الدراسي.

والواقع أن تطبيق هذا النموذج التعليمي، يجعل الوقت المخصص للدرس لم يعد يركز على تحديد المفاهيم، وإنما تطبيقها. وهدف التعليم هو البحث عما يفيد التلاميذ قبل كل شيء. كما أن هذه الطريقة عرفت انتشارا واسعا في ألمانيا، حيث ألفت حولها العديد من الكتب. ويعود الفضل في ذلك إلى فالكو بيشيل (Falko Peschel) الذي نشر هذه المقاربة.

أما المبادئ الأساسية التي تحكم هذه المقاربة، فهي حسب بيشيل، التعلم من خلال الاكتشاف، وحل المشكلات بالاعتماد الذاتي، والقيام بالأنشطة الموجهة. وبشكل عام، فإن هذه الممارسات تشجع الاستقلال أكثر لدى المتعلمين. وبعبارة أوضح، فإن هذه الطريقة في التعليم تخضع للمبادئ التالية:

  • تنظيم الوقت المخصص للعمل؛
  • تحدد أهداف العمل اليومي؛
  • تمارس أشغال تطبيقية؛
  • توظف مشاريع تعليمية ـ تعلمية.

هذا وقد توفـق بيشيل في صياغة تعريف أساسي للفصل الدراسي المعكوس غدا واسع الانتشار، يتجلى في الخصائص التالية:

  • إنه فصل منفتح على المستوى التنظيمي: تنظيم الشروط العامة (المكان، الزمن…).
  • يوظف منهجية منفتحة: استعداد للتعلم يجعل التلميذ متقدما؛
  • يتصف بالانفتاح على المضمون: إعداد البرامج على مستوى تعليمي منفتح؛
  • انفتاح اجتماعي: تحديد الأهداف مثل تدبير الفصول، ومجمل الدروس، ومخطط تعليمي على المدى الطويل، العلاقات الاجتماعية، شروط العمل، وضع قواعد، إلخ.
  • انفتاح شخصي: العلاقة بين الأستاذ والتلميذ أو بين التلميذ وزميله.

إن النموذج الأصلي للفصل المعكوس والذي يمكن اختصاره في ” الدروس في البيت، والواجبات في المدرسة “، عرف العديد من التعديلات، خاصة لدى الفرانكفونيين، الذين يركزون أكثر على الأنشطة التعلمية، ويعتمدون في المصادر الخارجية على أشرطة الفيديو بشكل خاص.

وبالنظر إلى تنوع الممارسات التي يقوم بها المدرسون خلال تطبيقهم مقاربة الفصل المعكوس، فإن مارسيل ليبرون (Marcel Lebrun)، يقترح التحدث عن الفصل المعكوس، بالجمع” الفصول المعكوسة أو المقلوبة “،  نظرا لتعدد واختلاف أنشطة التعلم التي لوحظت في الممارسة الفعلية لهذه المقاربة.

الرسم التالي يوضح الفرق بين بيداغوجية الفصل المقلوب والبيداغوجية التقليدية

 

ثالثا: أبحاث حول الفصل المقلوب أو المعكوس

حاولت العديد من الأبحاث استخلاص الجوانب الإيجابية والسلبية في مقاربة الفصل المعكوس. وقد قام باحثان في علوم التربية بمنطقة الكيبك بكندا وهما (, Steve Bissonnette et Clermont Gauthier) بإجراء دراسة تحليلية على حوالي 250 مقال، تناولت تأثير الفصل المعكوس على تعلمات التلاميذ. وفي غياب بيانات مقنعة، فإن الباحثين ينصحان في هذه الحالة استخدام تسمية” الفصل المستقيم !، عوض المعكوس”، لعدم بروز نتائج مفيدة تذكر. وقام فانسان فايلي (Vincent Faillet) من جهته، وهو مختص في علوم التربية، ببحث خلال عام 2014 حول الفصل المعكوس أثناء تدريس مادة العلوم في المدارس الثانوية بمنطقة باريس الفرنسية. وقد كشفت أبحاثه أن التلاميذ الذين يمتلكون مستوى جيد في هذه المادة في الفصول التقليدية، يبدون بشكل عام أقل كفاءة في الصفوف المعكوسة. في حين أن التلاميذ ذوي المستوى الأدنى في الفصول الدراسية التقليدية، حققوا أداء أفضل في هذا النظام.

إن هذا الانعكاس في الأداء يجب أن يرتبط بتكيف التلاميذ ذوي المستوى الجيد مع النظام التقليدي، ومع نزعة لعمل أفضل لتلاميذ الأقل في المستوى، عندما يوضعون في نظام الفصل المعكوس. فهذا “العقاب” للتلاميذ المجتهدين كثيرا ما تمت ملاحظته، ولا ينبغي أن يحجب عنا الفوائد التي لوحظت لدى التلاميذ الذين يعانون من بعض الصعوبات، فقد حققوا نتائج أفضل في هذا النموذج التعليمي.

ومع ذلك، ففي دراسة أخرى تجريبية قام بها باحثان أحدهما أمريكي والآخر برازيلي عام 2015، ظهرت نتائج مختلفة، فقد قارنا بين مجموعتين كانتا تحضران دورات تكوينية في علم الحياة، الفئة الأولى تتلقى تعليمها بطريقة الفصل المعكوس، والثانية بطريقة الفصل التقليدي. وبينت النتائج عدم وجود أي فرق في تعلمات المجموعتين. ووفق هذين الباحثين، فإن الفوائد التي كثيرا ما تعزى إلى الفصل المعكوس، هي في الواقع تعود إلى توظيف البيداغوجية الفعالة، التي ترافق طريقة الفصل المعكوس، والتي تجعل المتعلم يبني معارفه بنفسه. ولهذا يرى الباحثان بأنه من الممكن تطبيق هذه البيداغوجية في استقلال عن استخدام طريقة الصف المعكوس.

وفي هذا السياق، وبالنظر إلى التناقض الذي لوحظ في نتائج الأبحاث التي تناولت آثار” الفصل المعكوس”، فإن مارسيل ليبرون (Marcel Lebrun) يطرح فرضية بصدد اختلاف النتائج ويرجعها إلى أن مفهوم الفصل المعكوس، يطال إمكانيات كثيرة من الممارسات التربوية العملية. فطريقة الفصل المقلوب أو المعكوس التي كانت تدل أول الأمر فقط على تعلم الدروس في البيت، والقيام بالواجبات في المدرسة، عرفت تغيرا، وذلك حسب مختلف التخصصات العلمية التي تتخذها إطارا لعملها، وحسب الثقافة البيداغوجية الممارسة من قبل المدرسين. فهناك إذن عدة أصناف من الفصول المقلوبة أو المعكوسة[1]، وليس شكلا واحدا.

رابعا: احتياطات في استخدام بيداغوجية الفصل المقلوب

عند الشروع في استخدام هذا النموذج البيداغوجي الذي يعتبر مستجدة تربوية، فإنه سيقابل، بدون شك، بمقاومة من قبل عدة أطراف، وهي:

  • التلاميذ الذين يكتشفون أن هذه المنهجية تتطلب منهم بذل جهد أكبر في التعلم؛
  • آباء وأولياء التلاميذ الذين يرغبون، في الغالب، أن يتعلم أبناؤهم بنفس الطريقة التي تعلموا بها؛
  • الإدارة المدرسية التي تفضل عادة، عدم حدوث أي مشكل يعوق تدبير الشأن التربوي الذي تعودوا عليه في المؤسسة.

ولهذا، وتجنبا لأي سوء فهم يمكن حدوثه، فإن المقبل على استخدام هذا النموذج البيداغوجي، مطالب في البداية أن يشرح لكل الأطراف التربوية المعنية في مؤسسته فضائل هذه الطريقة ومزاياها والدواعي الموضوعية التي دعت إلى اللجوء إليها. وبعد ذلك، يحتاط في الشروع في استخدامها، بحيث يقوم في البداية باختيار فصل دراسي يرتاح إليه ويجري فيه تطبيقه، مبتدئا بدرس سهل التعلم، ثم يتدرج شيئا فشيئا، بقدر ما يحقق نجاحا ملموسا في التطبيق.

خامسا: الفصل المقلوب أو المعكوس، يعتبر فلسفة أكثر منه مجرد طريقة

تتلخص الطبيعة البيداغوجية للفصل المعكوس أو المقلوب في الإجراءات التالية:

يتوصل التلاميذ بالدروس على شكل موارد على الانترنت، تكون في الغالب أشرطة الفيديو يشاهدونها أو وثائق أخرى يطلعون عليها أين ما كانوا موجودين، في المنزل، أو المكتبة، أو الحديقة، إلخ. وهي تحل محل الواجبات. وما كانوا يقومون به في المنزل، أصبح يتم في هذا النموذج في الفصل الدراسي. (ومن هنا جاءت تسمية ” قسم معكوس أو مقلوب”). ويترتب عن هذا الأمر، قيام المدرس باستغلال الوقت المتبقي للفصل الدراسي، في تنظيم أنشطة ومشاريع جماعية ومبادلات تعاونية بين التلاميذ، مما سيعطي معنى حقيقيا للمحتوى الدراسي وللتعاون.

هناك العديد من البدائل يمكن استخدامها، غير أن الغاية واحدة، وهي الانتقال من نموذج تعليمي يركز على المعلم، إلى نموذج يركز على التلميذ، بهدف الاستجابة إلى الحاجات الفردية لكل واحد منهم.

إن نموذج الفصل المقلوب أو المعكوس يعتبر أداة في خدمة المعلم، بوسعه أن يكيفها حسب نوع التلاميذ والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها. لهذا فإن هناك العديد من الأساليب التي يمكن تصورها لقلب الفصل أو عكسه.

إن بوسع المدرس الانتقال التدريجي إلى أنشطة أكثر عملية. اعتمادا على الموضوع الذي يتم تعليمه. فقد يتم اقتراح مناقشات أو لعب الأدوار أو القيام بتطبيقات عملية (ورش العمل والعروض والتجارب)، أو قص أحاجي أو طرح أوضاع ومشاكل تنطوي على المفاهيم المكتسبة حديثا، أو التي سوف تشكل مفاهيم جديدة ينبغي اكتسابها، الخ. يمكن استبدال مقاطع الفيديو التي أعدها المدرس بأخرى، أو يرافق شرائط الفيديو وثائق لطرح الأسئلة، وتوليد المحادثات، أو إعطاء تعليمات لانجاز مشروع، إلخ.

هذا، وإن الدروس المتاحة للتلاميذ يمكن أن تأتي من مصادر مختلفة، بما في ذلك المعلم نفسه، إذا كان يرغب في إنشاء محتوى دراسي خاص به يضعه في شرائط الفيديو. كما يمكن لبعض التلاميذ اقتراح أشرطة ينتجونها بدورهم، مما يفسح المجال أمامهم للتجديد والابتكار والإبداع. وبعبارة أخرى، فإن كل ما يبدو جيدا ومفيدا للمتعلمين يمكن استخدامه.

إن العمل على تطوير الطريقة البيداغوجية للمدرس والانتقال إلى توظيف بيداغوجية ” الفصل المعكوس”، يمكن أن يتم في البداية ببطء. فقد لا يحتاج الأمر سوى إلى تزويد التلاميذ بالموارد على شكل أشرطة الفيديو أو وثائق، إلخ، ثم تقديم التعليمات التي تجعلهم يطلعون عليها قبل مجيئهم إلى الفصل. هذه هي الخطوة الأساسية الأولى التي ترسم نقطة الانطلاق، وهي خطوة بسيطة إذا عرف كيفية استغلالها. أما الخطوة الموالية، فتنحصر في الاستئناس بالتنظيم الجديد الذي يتطلبه استخدام هذه الطريقة، لجعل الوقت المخصص للفصل الدراسي مُحفزا وثريا للتلاميذ وللمدرس.

من الأهمية بمكان، أن يعرف التلاميذ فائدة هذه التجربة البيداغوجية. وبمجرد إدراكهم أن المدرس يمنحهم الاستقلال، فإن هذا يعبد الطريق في الاستمرار في التجربة. وعلى المدرس أن يشرح لهم ما ينتظره منهم ويمنحهم دور مراقبة تعلماتهم، خلال مشاهدة أشرطة الفيديو، قبل المجيء إلى الفصل. وعليهم كتابة ملاحظاتهم وأسئلتهم الأساسية خلال المشاهدة. ويقومون بطرحها على المدرس في الفصل، وأن لا يكتفوا بالمشاهدة وحدها، مما سيتيح للمدرس معرفة التلاميذ الذين تعاونوا واشتغلوا والذين أظهروا قصورا وعدم اهتمام. وإذا كان التلاميذ متعاونين، فإن الفصل سيغدو حيا وممتعا، بالنسبة إلى الجميع، وسيتم آنئذ الاحتفاظ بهذا النموذج التعليمي وتطبيقه باستمرار.

إن بيداغوجية الفصل المعكوس تتيح العديد من الإمكانات والطرائق في الاستخدام، وذلك حسب اختيار المدرس، وحسب سياسة مؤسسته التعليمية. من الممكن للمدرس، على سبيل المثال، أن يستخدم أبسط طريقة الفصل المعكوس، باللجوء فقط، إلى قلب النموذج الكلاسيكي، الذي كان يقوم على تقديم الدرس في الفصل وانجاز الواجبات في البيت. وبوسع المدرس إدراج مفاهيم أخرى تتعلق ببيداغوجية المشروع. كما يمكن العمل بالمجموعات لتحقيق التقدم في البرنامج أو جعل كل تلميذ يعمل حسب إيقاعه في التعلم. فالمقاربة إذن تشكل فضاء تعليميا متسما بالابتكار الذي تتيحه حرية العمل.

سادسا: الفصل الدراسي المقلوب أو المعكوس أكثر إنسانية في التعامل مع المتعلمين

إن مزايا هذا النموذج في التعليم كثيرة، غير أن الشيء الأساسي فيه هو الحرية التي يوفرها. فهو يحرر التلاميذ ولا يجبرهم على الجلوس بصمت ساعات طويلة. فهو يمكنهم من ” العيش” في الفصول الدراسية بشكل يجعلهم يتفاعلون مع المدرس ومع زملائهم. وهذا النموذج التعليمي يحرر المدرس أيضا، فهو لم يعد مجبرا على تكرار نفس الدروس مرارا، مما يسبب الفوضى وصدور المشكلات السلوكية من بعض التلاميذ أو استسلامهم للنوم. كما أنه يوفر الوقت الكافي للمناقشة مع التلاميذ وجها لوجه، فرادى أو جماعات. مما يساعد على اكتشاف التلاميذ وفهمهم بشكل جيد. وبوسع المدرس أن يكيف مساعدته لكل تلميذ حتى يجعل عمله أكثر فاعلية. ويغدو المدرس بهذه الكيفية، في نظر التلاميذ مرافقا لهم، وعلى أتم الاستعداد لتوجيههم، عوض أن ينظر إليه شخصا مستبدا. مما يؤدي إلى تحسين العلاقات معه وبالتالي الوصول إلى تقديم نتائج دراسية أفضل.

ومن الناحية العملية، فإن هذه الطريقة جد منطقية، ذلك أن التلميذ الذي يتوقف أمام مشكلة ما لم يعد مجبرا على التفرج عليها والوقوف مكتوف اليدين بمفرده في البيت. فمثل هذا العمل من الآن فصاعدا ينجز في الفصل الدراسي على شكل ورش تعاونية، تتم فيها المساعدة بين الأطراف[2].

ومن جهة ثانية، فإن التلميذ الذي يشاهد شريطا بوسعه إعادة مشاهدته أو إيقافه للتأكد من بعض المشاهد حتى يستوعبها. كما أن بوسعه تدوين الأسئلة التي يمكن أن يطرحها على المدرس في الفصل. على عكس ذلك في النموذج الكلاسيكي، فهناك فئة قليلة من التلاميذ تجرؤ على توقيف الدرس والاعتراف بأنها لم تفهم شيئا، مما يجعلها تقضي بقية الوقت تائهة لأنها فقدت فهم عنصر من عناصر الدرس. وعندما يصل المدرس إلى نهاية الدرس، غالبا ما لا يجيب على أسئلة التلاميذ، بسبب انتهاء الوقت المخصص للدرس. لهذه الاعتبارات كلها، فإن مفهوم الفصل المقلوب أو المعكوس يستحق الاهتمام.

لقد كان النموذج التقليدي مبررا لعدم وجود وسيلة أخرى لنقل المعرفة إلى المتعلم. غير أن التكنولوجيا حاليا، تسمح لنا بذلك وبطرائق ووسائل عديدة ومختلفة. ولهذا لم يعد هناك مبرر للتعايش مع النموذج التقليدي في التعليم والتعلم. لقد حان الوقت للوقوف وإعادة النظر في أساليب التعليم المتداولة، بعد تراكم مختلف نتائج الأبحاث المتعلقة بالتعلم. وظهور أساليب وطرائق جديدة تتفق والطبيعة الذهنية للمتعلمين وتحقق مردودية تعليمية أفضل. فالتقنيات أصبحت موجودة في كل مكان. فقد دخلت المدرسة والبيت على السواء. لذلك علينا أن نكون عمليين، وبدلا من حظرها في الفصل الدراسي أو البيت، فإنه ينبغي استخدام الإمكانات الإيجابية التي تتيحها، لتحفيز التلاميذ على التعلم وتحقيق الأهداف المتوخاة.

خاتمة

إن المدرسين الذين يطمحون إلى منح تلاميذهم تعليما متسما بالجودة في مختلف مناطق العالم، انتقلوا إلى استخدام بيداغوجية ” الفصل المقلوب أو المعكوس”، لما توفره من دافعية فائقة لدى التلاميذ وما تتيحه لهم من جو المتعة والفائدة. فهي مقاربة أدمجت في ممارستها العملية العديد من البيداغوجيات التي أبانت عن فائدتها وجدواها في التربية والتكوين، مثل البيداغوجية الفعالة، والبيداغوجية الفارقية، وبيداغوجية الذكاءات المتعددة، والتعلم بالاستكشاف، والتعلم بطريقة المشروع، والتعلم الذاتي، إلخ، وهي كلها أساليب فعالة وحديثة في الممارسات التعليمية. ولفهم النجاح الذي تحققه هذه البيداغوجية الجديدة، علينا أن نقارن بين الحياة اليومية للتلميذ في النموذج التقليدي للتعليم مع النموذج الجديد. فالتلميذ في بيداغوجية الفصل المقلوب يقضي ساعات الفصل في حيوية ونشاط ومتعة، فهو يشعر بالحرية، يتحرك ويتواصل ويتعاون. لذلك فهو يغادر المدرسة دون الشعور بالكلل والملل. فلحظات الفصل الدراسي تكون ممتعة ويشعر خلال أنشطتها أنه حقق ذاته. وهذا على عكس الوقت الذي يقضيه في الفصل الدراسي التقليدي، حيث يشعر بأنه مقيد طيلة الوقت، وأن العازف المنفرد في الفصل هو المدرس طيلة الوقت، مما يسبب له الشعور بالسأم والضيق، وأن أسلوب التعليم المتبع كثيرا ما لا يراعي طرائق تعلمه، وأنه مهمش ولا يشارك في الفصل، في غالب الأحيان.

إغلاق