مجلات ودوريات
سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الخامسة: السندباد البحري، الرحلة الثانية
بقي السندباد مدة من الزمن في دار السلام بين أهله وأحبابه ولكنه حن للسفر وتاقت نفسه للمغامرات القديمة أين كان يرى الأعاجيب ويتعرف على ثقافات شعوب لم يسمع عنها من ذي قبل ويلتقي أناسا جددا وينال فوائد السفر السبع من ترويح عن النفس، اكتساب المعيشة، تحصيل العلم، تحصيل الآداب، تكوين صداقات، استجابة الدعوة، زيادة الأقارب والأصحاب.
حمل السندباد معه بضاعة ليتاجر بها وركب سفينة متجهة نحو الشرق ومعه الكثير من الرجال يسافرون من مكان لآخر ومن بحر لبحر ومن محل لمحل، فيقابلون التجار وولاة الأمور والباعة والمشترين، فيبيعون ويشترون ويقايضون البضائع وبقوا على هذا الحال لأشهر إلى أن نزلوا على جزيرة كثيرة الأشجار يانعة الأثمار فائحة الأزهار مترنمة الأطيار صافية الأنهار ولكن ليس بها ديار ولا نافخ نار فرسا المركب و طلع التجار والركاب إلى تلك الجزيرة وبدؤوا يتفرجون على ما فيها من مناظر خلابة ومخلوقات غريبة أما السندباد فقد شعر بالتعب من كثرة التجوال فاستظل تحت شجرة وارفة حتى نام ولما استيقظ لم يجد أحداً لا من التجار ولا من البحرية والتفت فيها يميناً وشمالاً فلم يرى أحدا، وشعر بالغم والحزن والإحباط ولم يكن معه شيء من المأكل ولا المشرب وصار وحيدا تائها، ثم قام وأخذ يتمشى في الجزيرة إلى أن رأى شجرة عالية ومثمرة فتسلقها وقطف منها ثمار جوز الهند وأكل حتى شبع وشرب ماءها الحلو حتى ارتوى ثم بدأ يجول ببصره فلم ير غير سماء وماء وأشجار وأطيار ورمال، ولما دقق النظر لاح له شيء أبيض عظيم فنزل من فوق وقصده فإذا به قبة دائرية كبيرة بيضاء شاهقة فاقترب منها وطاف حولها ولكنه لم يجد لها مدخلا ولم يسمع بها صوتا وتحسسها فلم يشعر بحركة داخلها وبقي يحاول الصعود عليها دون جدوى لأنها ملساء فصار يفكر في طريقة تمكنه من دخولها قبل حلول الظلام، وإذا بالشمس قد خفيت والجو قد أظلم واحتجبت الشمس، فتعجب السندباد ورفع رأسه متأملا في ذلك فرأى طائراً ضخما كبير الجسم عريض الأجنحة محلقا في الجو وهو الذي غطى قرص الشمس، فازداد تعجبه من الطائر ولكنه تذكر حكاية أخبره بها قديماً أهل الأسفار، وهي أن بعض الجزر يسكنها طير عظيم يقال له الرخ فاقترب الطير وحضن القبة بجناحيه وقد مد رجليه من خلفه على الأرض ونام عليها.
أخذ السندباد يفكر بحيلة للخلاص ففك عمامته من فوق رأسه وثناها وفتلها حتى غدت مثل الحبل فتحزم بها وربط نفسه في رجل ذلك الطير وشدها شداً وثيقاً لعله يحلق به إلى إحدى المدن او أي مكان آهل. وبات تلك الليلة ساهراً خوفاً من أن ينام فيطير به على حين غفلة، فلما طلع الفجر قام الطائر من على بيضته وصاح صيحة عظيمة وارتفع إلى الجو وحلق طويلا وبعد ذلك نزل إلى الأرض وحط على مكان مرتفع عال، فأسرع السندباد وفك الرباط من رجله واختبأ وبقي يرقب الطائر الذي بدأ يتمشى في ذلك المكان ثم التقط شيئاً من على وجه الأرض وحمله بمخالبه وطار إلى عنان السماء فتأمله فإذا هو يحمل حية عظيمة قد أخذها وذهب بها إلى البحر.
خرج السندباد ومشى حتى وجد نفسه في مكان عال وتحته واد كبير واسع عميق، وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد أن يرى قمته من فرط علوه، فقرر البحث عن سبيل للخروج، فلفت انتباهه حجر ألماس وأراد أن يلتقطه ولكنه شاهد حيات وأفاع وكل واحدة مثل النخلة لو يقترب منها ابتلعته، فسار على حذر حتى وجد مغارة بابها ضيق فدخلها ونظر إلى حجر كبير عند بابها فدفعه وسد به باب المغارة، ثم التفت فرأى حية عظيمة نائمة في صدر المغارة على بيضها فاقشعر بدنه وبقي طوال الليل ساهرا إلى أن طلع الفجر ولاح ضياؤه، فأزاح الحجر الذي سد به الفتحة وخرج منهكا من شدة السهر والجوع والخوف وواصل بحثه بحذر وإذا بذبيحة قد سقطت أمامه ولم ير أحدا إلى أن جاء طير كبير وحملها بين مخالبه وهنا فكر السندباد بالخروج بهذه الطريقة فقام وجمع الكثير من الحجارة الكريمة ووضعها في جيوبه وبين ثيابه وبينما هو على هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة أخرى تسقط فربط نفس عليها، حيث نام على ظهره وجعلها على صدره وبقي قابضا عليا وإذا بنسر ضخم نزل على تلك الذبيحة وقبض عليها بمخالبه وأقلع بها إلى الجو ولم يزل طائراً إلى أن صعد إلى أعلى الجبل وحطها وأراد أن ينهش منها، وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذلك النسر تبعتها ضوضاء وجلبة فابتعد النسر وحلق بعيدا، ففك السندباد نفسه من الذبيحة وقد تلوثت ثيابه بدمها، وتقدم رجل نحو الذبيحة فرأى السندباد واقفاً ففزع وارتعب.
مشى السندباد بضع خطوات فبادره الرجل بالسؤال خائفا:”من أنت؟ وما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟
فطمأنه السندباد قائلا:” لا تخف.. فإني إنسي مثلك وكنت تاجراً وسبب وصولي إلى هذا الجبل وهذا الوادي حكاية عجيبة فلا تجزع، وأنا معي شيء كثير من حجر الألماس وغيره وسأعطيك منه شيئاً يكفيك، وكل قطعة معي أحسن من كل شيء يأتيك”
عندئذ شكر الرجل السندباد ودعاه للتعرف على باقي التجار المرافقين له وأخبروه أنهم يرومون الذبائح لتلصق بها الأحجار النفيسة ثم قص عليه السندباد كل ما جرى معه فهنئوه على سلامته ونجاته فما من أحد وصل إلى هذا المكان قبله ونجا ولكن الحمد لله الذي رعاه وحماه وكتب له النجاة وأخذوه معهم، وبقوا سائرين إلى أن أتوا بستانا في جزيرة مخضرة وفيها شجر الكافور وكل شجرة منها يستظل تحتها إنسان، وإذا أراد أن يأخذ منه أحد يثقب من أعلى الشجرة ثقباً بشيء طويل ويتلقى ما ينزل منه فيسيل منه ماء الكافور ويعقد مثل الشمع وهو عسل ذلك الشجر وبعد ذلك تيبس الشجرة وتصير حطباً.
أخذ الرجال بعض الحطب وأشعلوا النار واصطادوا السمك وقاموا بشيه ثم قاموا للحجارة ووضعوها داخل أكياس لبيعها فاقترح عليهم السندباد تصنيفها ووضع كل نوع داخل كيس وكتابة اسمه عليه فاخبروه أنهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة كما أنهم يجهلون أسماء الأحجار ولا يعرفون غير أنها ثمينة.
فقال السندباد:” يمكنني تعليمكم الكتابة وهكذا سأعرفكم على اسم كل حجر وخصائصه فقد تعلمت الكثير عن الأحجار خلال أسفاري السابقة”
سعد الرجال بكلام السندباد وطلبوا منه أن يرافقهم لمدينتهم ويقيم معهم بعض الوقت حتى يعلمهم فوافق ثم ركب معهم السفينة وأبحروا.
وصلت السفينة للمدينة وأعجب السندباد ببناياتها التي ترصعها الأحجار الكريمة فرحب به أهلها وأكرموه وأعطوه منزلا مجهزا بكل ما يلزمه في مهمته.
صار السندباد يدرس التجار بجد ويعلمهم الحروف والخط حتى صاروا يحسنون الكتابة والقراءة وبعدها انتقل إلى مرحلة تعريفهم بالأحجار وكيف أنها تتواجد في أعماق مختلفة تحت الأرض وتستخرج من باطنها وقد تتكوّن من عنصر معدني واحد، أو تتشكّل بفعل اندماجها مع عناصر أخرى، فالألماس والزمرد والياقوت من الحمم البركانية والزلازل، أما المرجان واللؤلؤ فيتشكلان في قاع البحر ويُعتبران من الأحجار التي تتشكل في المملكة الحيوانية، أما المملكة النباتية فيتكوّن فيها الكهرمان الأصفر.
وهذه الأحجار لا تستعمل في البناء فحسب كما يفعل سكان هذه المدينة بل أن لها عدة استعمالات فهي تستغل في علاج الأمراض وتسكين الآلام وصناعة الحلي وغير ذلك.
بلغ والي المدينة خبر السندباد وما علمه للرجال فاستدعاه وأكرمه وطلب منه البقاء عندهم على أن يقلده منصبا هاما نظرا لخبرته وسعة معرفته لكن السندباد اعتذر واستأذن بالرحيل لأنه اشتاق لموطنه وأهله، وأجزل له الوالي العطاء وسمح له بالمغادرة.
ركب السندباد السفينة ومن مكان لمكان وصل إلى بغداد ودخل حارته ومعه متاع وبضائع وأحجار ثمينة، ثم تصدق ووهب وأعطى وهادى جميع أهله وأصحابه وجيرانه وكل مسكين يعرفه وصار والناس يأتون إليه ويسألونه عن حال السفر وأحوال البلاد التي مر بها فيخبرهم بالأعاجيب ويحكي لهم ما لقيه ورآه في سفرته، فيتعجبون من شدة ما قاساه ويهنئوه بالسلامة.