اخبار التعليمسلايد 1

المغرب: تدريس الفلسفة بالمغرب .. من الرّهان على “الثورة” إلى الجيل الخامس‬

ماذا يعني أن تكون مدرّسا للفلسفة في زمن التكنولوجيا وبروز إرهاصات الجيل الخامس؟ هل يمكن التقيّد بنفس المناهج المتوارثة حتّى ننتج معرفة نقدية تواكب فوضى العالم ومشاكله؟ وما هو طموح الأساتذة في تدريس الفلسفة؟ هل يبتغون تغيير الأذهان أم التّأثير في الواقع؟ وهل “الفلسفة” ضرورية لفهم عالم اليوم؟.

سياق هذه الأسئلة توجّه الدّولة إلى حذف مادة حقوق الإنسان من المناهج الدراسية الجامعية، دون أن تقدّم تبريرات وراء هذه الخطوة التي فاجأت الجامعيين المغاربة، وهو ما أعاد إلى الأذهان قرارات سابقة كانت تروم إلغاء تدريس مادة الفلسفة في التعليم ما قبل الجامعي؛ وهي المادّة التي طالما رفضها الملك الراحل الحسن الثّاني، بدعوى أنها تنشر الإلحاد وتنتج أفكارا اشتراكية.

وخلال محطات تاريخية كانت الفلسفة ومدرّسوها دوما في دائرة الاتهام، إذ سبق للملك الرّاحل أن خاطب الأساتذة بانفعال شديد في خطابات مباشرة عام 1984، إذ اتهموا بتسييس التلاميذ ومدهم بأفكار اشتراكية وإلحادية، وهكذا تم تقليص حصص درس الفلسفة في الثانوي، كما جرى حذفها بالنسبة لبعض المستويات الدراسية.

ولا يبدو أن هذا الهم “النّضالي” حاضر حاليا لدى أساتذة الفلسفة، الذين تجاوزوا “منطق الصّراع” مع السّلطة إلى التّكيف والانصهار مع ما تقتضيه متطلّبات المرحلة، لاسيما في ظلّ وجود برامج تعليمية “لا تشجع الفكر النقدي بقدر ما تقدم قوالب جاهزة للحفظ ولا تطرح الأسئلة المزعجة”.

الفلسفة تُزعج؟

في جوابه عن سؤال مدى إدراك التلاميذ لما يقدّم لهم في حصص الفلسفة، وهل واعون به، ينطلق الأستاذ أحمد العمارتي من تحديد العلاقة بين المدرس والمتعلم ودور كل واحد في بناء الدرس الفلسفي، مضيفا أن الثابت أن مهمة مدرس الفلسفة لا تختزل في تلقين مضامين جاهزة، لأن هذه العملية تتناقض مع روح التفكير الفلسفي كتأمل نقدي حر ينبني على التساؤل.

لذلك، يرى الأستاذ ذاته أن “الدرس الفلسفي وفق توجيهات الرسمية يجب أن ينطلق من أفكار وتمثلات المتعلم، ويساعده على تطوير أفكاره وإعادة النظر في آرائه، وتفكيك تمثلاته وإعادة بنائها، وبهذا يكون المدرس وسيطا بين الفلاسفة وأطروحاتهم وتصوراتهم وآراء التلاميذ، أي إن دوره هو تحفيز المتعلم على التفكير الذاتي المستقل”.

وبتعبير مشيل طوزي Tozzy يؤكد العمراتي أنه “يجب دفع المتعلم إلى الاشتغال على تمثلاته بنفسه”، أي منحه الحق في التفلسف من خلال تمكينه من القدرات والكفايات اللازمة، وذلك عبر سيرورة متدرجة من التعرف والاستئناس إلى الممارسة والإبداع الحر، وزاد مستدركا: “لكن أجرأة هذه العلاقة تواجه صعوبات، أهمها التمثلات الاجتماعية السائدة عن الفلسفة، من قبيل أن الفلسفة (إلحاد، كفر، زندقة) ..وكذا الفلسفة (مادة معقدة، لا يفهمها الجميع..)، وهي أهم عائق يواجه مدرس المادة”.

وأضاف المتحدث: “هذا الإلزام لا يمنع مدرس الفلسفة من مناقشة وإبداء الرأي حول الوثائق المحددة للدرس الفلسفي والموجهة له ولأهدافه وغاياته ومراميه، بغية تجاوز الصعوبات والإكراهات التي يواجهها الدرس الفلسفي باعتباره عملية غير منتهية ولا كاملة، بل دينامية تتطور بالنقد والنقاش الجماعي بغرض الارتقاء بالدرس الفلسفي المغربي، باعتباره التزاما تجاه المجتمع أولا والفكر الفلسفي الحر ثانيا”.

ويرى الأستاذ ذاته أن “وعي المتعلم رهين ببناء هذه العلاقة، ورغم صعوبة تحقيقها فهي ضرورية ولا بد منها، إذ مهمة المدرس هو جعل المتعلم يقظا يفكر يتساءل”.

جماعات أصولية ترفض الفلسفة

يتقاطع سعيد ناشيد، أستاذ مادة الفلسفة والكاتب المغربي، مع تصريح الأستاذ أحمد العمارتي حول دور الفلسفة والغايات من تدريسها، ويقول: “لكي تصبح الفلسفة أداة لتغيير العقول وترسيخ أسس العيش الحكيم لدى المواطنين يجب تغيير مناهجها وطرائق تدريسها أولا. لا يهمني أن يعرف المتعلم ما قاله أبيقور أو سبينوزا عن الرغبة، إن لم يتعلم أن يخضع رغباته هو للتفكير والنقد والتأمل، وأن يشعر من ثمة بالنمو والارتقاء. يجب تدريس الفلسفة بطريقة عملية، تساهم في تنمية القدرة على العيش، والعيش المشترك. وهذا باختصار شديد”.

ويزيد ناشيد: “هناك جماعات ضغط نافذة، تتقاطع فيها القوى الأصولية والقوى المحافظة، ولديها موقف متوجس من الفلسفة باعتبارها ترسخ الحس النقدي لدى المواطنين. إن أخشى ما يخشاه حراس المعبد هو الفكر النقدي القائم على السؤال، والشك، ومعاودة التفكير في المسلمات”.

هل الفلسفة تُزعج؟ يحاول أحمد العمارتي، أستاذ مادّة الفلسفة في الجنوب المغربي أن ينطلق من فكرة مفادها أنّ “سؤال تمثل أو لنقل بشكل أدق تصور مدرس لمادة الفلسفة لا يمكن الإجابة عنه بشكل مباشر ومطلق، لارتباطه بتساؤلات أخرى أهمها: ما الفلسفة؟ وماذا يعنى أن أكون مدرسا للفلسفة؟”، مشيرا إلى أنّ “هذه التساؤلات تقع في قلب التفكير الفلسفي ومرافقة لتاريخ الفلسفة، وبذلك فهي تسكن (أو يجب أن تسكنهم) مدرسي المادة، ما يجعلهم ينظرون إلى عملية تدريسها نظرة نقدية يقظة تسعى دائما إلى الارتقاء بالدرس الفلسفي المغربي، ورهاناته الاجتماعية المتجددة، وموقعها في النظام التعليمي، ووظيفتها، وغايتها”.

ويشير الأستاذ ذاته، إلى أن “هذه العناصر الأخيرة هي التي تحدد أبعاد الفعل عند المدرس، وتحد المادة المدرسة”، وزاد: “ويتضح الأمر عندما نتأمل تاريخ الدرس الفلسفي المغربي بدءا من 1966 مع ظهور كتاب “دروس في الفلسفة” للأستاذ محمد السطاتي ومحمد عابد الجابري، ومرورا بمحطات أخرى منها كتاب “الفكر الإسلامي والفلسفة” 1979 للأستاذ علي سامي النشار، وصولا إلى المنهاج الذي نشتغل وفقه حاليا، والذي يحدد الفلسفة باعتبارها ‘معرفة شمولية مركبة من مختلف المعارف العلمية والأدبية والفنية، وطريقة في التفكير تقوم على تأمل تجربة الإنسانية من خلال فكر نقدي متحرر من البداهات والعادات الفكرية السائدة’”.

ويعتبر العمارتي أنّ “الفلسفة لا تقدم معرفة جاهزة وحقائق ثابتة، بل تقترح حلولا ممكنة ومتعددة تتأسس على منظومة من المفاهيم والحجج لمواجهة الإشكالات الوجودية والإبيستيمولوجية (المعرفية) والقيمية”، مردفا: “هذا هو التحديد الذي يلزم مدرس الفلسفة أن يعمل على أجرأته في الدرس الفلسفي، متوخيا الانسجام والتلاؤم بين الفلسفة كتفكير متميز وبين التدريس، وذلك من خلال الالتزام بالمبادئ والمرتكزات والغايات التي تحددها الوثائق الرسمية، وخصوصا وثيقة لتوجيهات التربوية والبرنامج الخاص بتدريس الفلسفة بسلك الثانوي التأهيلي يونيو 2007”.

جمود الواقع

أما عبد الله الغلبزوري، أستاذ مادة الفلسفة في نواحي الحسيمة، فيشير إلى أن “أثر الفلسفة كان ليصير أقوى لو أن ما يدرسه المتعلمون وما يفكرون فيه داخل الحجرات الدراسية له ما يوازيه في الواقع، أي لو كان المجال العام مجالا عاما فعلا، مسموحا فيه بالتعبير عن الرأي بكل حرية، خاصة في المجال السياسي، لأن ما يدرسه المتعلم عن الفكر السياسي من مفاهيم التعاقد، الحرية، العدل وغيرها من المفاهيم لا بد أن تخلق عنده نظرة نقدية لواقعه”.

ويبرز الغلبزوري أن “هذه النظرة النقدية غير مسموح لنا جميعا التصريح بها”، وزاد: “إن الدرس الفلسفي يصبح أمام جمود الواقع وعدم القدرة على تغييره بمثابة قناعات فردية لا محل لها من الإعراب الجماعي، والفلسفة لم تخلق لهذا في نظري”؛ كما اعتبر أن “الحديث هنا عن مادة الفلسفة لا عن الفلسفة، فالثانية مسألة تفكير ذاتي متحررة من قيد السلطة، بينما الأولى موجهة باختيارات الدولة في مجال التعليم، بمعنى آخر خاضعة لتصور الدولة عن التلميذ الذي يفترض أن تساهم الفلسفة في تكوينه”، وزاد: “تجيبنا الوثائق الرسمية (التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة) عن طبيعة التلميذ المتوخى بأنه ينبغي أن يكون مواطنا مستقلا في تفكيره ممتلكا لوعي نقدي متشبعا بالقيم الإنسانية الكونية وغيرها من الرهانات، وهذا الذي ينبغي قياسه على أرض الواقع، أي مدى نجاح الفلسفة في بث هذه القيم”.

وفي اعتقاد الأستاذ ذاته فإن “طبيعة المادة تسمح بالانفتاح على مواضيع وقضايا من أزمنة مختلفة من ثقافات متنوعة بأنماط تفكير متباينة، الأمر الذي يسمح للمتعلم بأن ينظر إلى الموضوع أيا كان من زوايا نظر مختلفة عوض الزاوية الثقافية الخاصة به، وهذا الأمر في حد ذاته يربي في المتعلم النسبية والتسامح والاستقلال الفكري وغيرها من القيم التي هي أهم ما يحتاجه الإنسان في زمان الناس هذا”.

المصدر: هسبريس

إغلاق