مجلات ودوريات
سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الثانية: زعفران في مدينة الفئران
منذ زمن بعيد.. في إحدى المدن الكبرى بشوارعها الواسعة، ومحلاتها التجارية الفاخرة، وحدائقها المنتشرة بين المنازل الفخمة ذات أسقف القرميد الأحمر، كان يعيش أناس أغنياء ورثوا أموالا طائلة عن أجدادهم وعوض أن يجتهدوا في العمل ويحافظوا على هذه الثروة تحولوا إلى كسالى، يتقاعسون عن أداء واجباتهم ويمضون أوقاتهم في اللهو والاحتفال.
لا يهتمون بالنظافة أبدا ولا يأبهون لعواقب هذا الإهمال، يلقون بالأشياء في أي مكان، لا يستعملون سلال المهملات ولا أكياسا لجمع القمامة أو تخصيص مربع معين لرميها، أصبحت القاذورات تغزو الطرقات، البيوت تملؤها بقايا الأطعمة والمخلفات المنزلية إلى غير ذلك من الأوساخ حتى غدت مدينتهم الجميلة مكب نفايات تنبعث منه روائح كريهة لا تطاق، وتلونت مناظرها بألوان قاتمة منفرة تبعا للتعفن الناتج عن البقايا، مما أدى إلى تكاثر الفئران وانتشارها بشكل رهيب.
شكلت هذه القوارض الصغيرة جيشا حقيقيا وهجمت على المدينة، سكنت البيوت، المحلات، المخازن والفنادق، وأصبحت الشوارع مرتعا لها، أتت على كل شيء تصادفه في طريقها، احتلت خزائن الطعام و أفرغت مخازن الحبوب، فأصيب الأهالي بالذعر والفزع وأخذوا يفكرون جديا في طريقة ناجعة للتخلص منها.
في بادئ الأمر، وضعوا الفخاخ والمصائد غير أنها لم تنفع، ثم دسوا السم في الأطعمة لكن دون جدوى فليس من السهل القضاء على هذا العدد الهائل من الفئران بجرعات قليلة من السم، وأخيرا قاموا باستقدام قطط من المدن والبلدات المجاورة بيد أن الوضع ازداد سوءا؛ عمت الفوضى وعلا الضجيج بسبب المطاردات ليلا و نهارا لتنتهي المعركة بانتصار الفئران لتفوقها العددي ويأس القطط وركونها للخمول.
لم يجد السكان حلا آخر سوى الاستنجاد بالعمدة وهو رئيس مجلس المدينة رجل عابس في العقد الخامس من العمر، متوسط القامة ممتلئ الجسم، مستدير الوجه غائر العينين كثيف الحواجب، غليظ الرقبة، أجش الصوت، بطيء الحركة، ونادرا ما يراه العامة لأنه لا يقابل أحدا إلا للضرورة القصوى، وهذه المرة ظهرت حالة طارئة وعليه احتواء الوضع وإلا سيقع في مشاكل أكبر مستقبلا.
أطل العمدة من شرفة مكتبه ورأى حشدا كبيرا من الناس متجمهرين حول مبنى المجلس فاحتار كيف يواجههم ويرد على مطلبهم وأصواتهم المنادية بتدخله لمحاربة الفئران، وطال صمته إلى أن خطرت بباله فكرة شرع في تنفيذها على الفور.
قرر العمدة منح مكافأة كبيرة ليحفز الناس على مواجهة الفئران وليشغل الرأي العام الذي بدأ يثور ضده لذلك أمر كاتبه أن يصدر إعلانا يكتب فيه:
“نظرا لأن بلدتنا الراقية والجميلة تواجه أزمة حقيقية، فإننا نضع ألف قطعة ذهبية نقدا وعدا جائزة لمن يقضي على جموع الفئران الغازية، فمن كان بمقدوره تخليصنا من هذه المعاناة فليتقدم فورا بالحل وينل الجائزة ”
ووضع ختمه للمصداقية والتأكيد على أن العرض رسمي وجدي.
تم تعليق العديد من نسخ الإعلان على جدران المباني وداخل المقاهي والحدائق العامة.
وصادف أن دخل المدينة شاب غريب، قمحي البشرة أسود الشعر، طويل القامة نحيل الجسم، ملابسه قديمة ولكنها مرتبة و نظيفة، يعتمر قبعة قطنية لينة ويعلق جرابا أصفرا، نظراته حادة ويبدو عليه النشاط والجد.
مشى الشاب في شوارع المدينة بصعوبة بسبب أكوام القاذورات والفئران الجائلة هنا وهناك وأصيب بالهلع والاشمئزاز لما رآه من مشاهد منفرة وهمّ بالرحيل لكن الإعلان لفت انتباهه، تقدم إليه وقرأه ثم سأل عن مقر العمدة، فأرشدوه إليه، ولما وصل وجد حارسا على الباب فأخبره عن رغبته بمقابلة العمدة من أجل عرض حل لمشكل الفئران.
سارع الحارس إلى الداخل وما هي إلا لحظات حتى خرج العمدة مندهشا لأنه من الصعب عليه تصديق أن هناك شخصا يمكنه أن يخلصه من حشود الفئران، لكن زعفران أخبره أنه عشاب خبير بعلم النبات، وأكد له أن بإمكانه البحث لإيجاد وصفة فعالة للقضاء عليها.
أصيب العمدة بالذهول وقال لزعفران :” حسنا إن نجحت في ذلك فلك ألف قطعة نقدية من الذهب “.
طلب زعفران من العمدة أن يمهله أسبوعا واحدا حتى يتمكن من تجميع اللوازم و تحضير الوصفة.
وبعد عمل جاد متواصل و تجريب دقيق تمكن زعفران من الحصول على خلطة عشبية مزجها مع أجبان طازجة وتركها لتتخمر فتتكاثر كائنات حية دقيقة من أجل إضفاء نكهة مميزة، وعند انتهاء المدة كان الحل السحري حاضرا.
وضع زعفران قطع جين كبيرة وسط المدينة وما هي إلا دقائق حتى بدأت مئات الآلاف من الفئران تغادر المخازن والأقبية والبيوت، منجذبة إلى الجبن وكأنها منومة مغناطيسيا بفعل رائحته القوية وما إن تقضم قطعة صغيرة حتى تسقط أرضا، وعندما أدرك زعفران نجاح العملية، تقدم من الفئران الهامدة وجمعها بمكنسة وجاروف كبير ثم قام بوضعها داخل أكياس كبيرة وأحكم إغلاقها.
توجه الشاب المُخَلّص إلى العمدة ليتسلم مكافأته نظير إنقاذه المدينة، لكن العمدة أخلف وعده وتنكر له ومعه الأهالي وقد دبت فيهم نشوة من الارتياح وانشراح الصدر بعدما زال الخطر، فغضب زعفران واستاء من هذا التصرف المشين وقرر أن يلقن الجميع درسا.
عاد زعفران إلى أكياس الفئران وأخرج من جرابه قارورة عطر خاص وأخذ يفتح الكيس تلو الآخر ويرش داخله بعض الرّذاذ، فاستيقظت كل الفئران لأنها لم تكن ميتة كما ظن العمدة والسكان إنما أغمي عليها فحسب وعادت للانتشار وغزو المدينة من جديد.
هم زعفران بالرحيل، فتبعه الأهالي وترجوه ليخلصهم من هذه الورطة ولكنه رفض لأنهم مخادعون ولا يستحقون المساعدة بعدما قابلوا الإحسان بالنكران.
صمم زعفران على المغادرة غير أن حراس العمدة لحقوا به، اعترضوا سبيله ومنعوه من الذهاب ثم قادوه إلى مجلس العمدة الذي كان بانتظاره فخاطبه مستعطفا: “أرجوك يا بني.. سامحنا، لقد أخطأنا بحقك ونطلب منك الصفح، خلصنا من هذه الفئران المشؤومة، ولك الألف قطعة خذها الآن إن شئت “.
فكر زعفران قليلا ثم رد واثقا “: موافق.. مقابل أن آخذ ألفين عوض الألف لأنني هكذا سأتعب مرتين، وسأتسلمها مسبقا لأنكم لستم أهلا للثقة ولن ألدغ من الجحر مرتين “.
قبل العمدة على مضض فلا خيار أمامه، ومن فوره اجتهد زعفران في إعادة صنع الخلطة وفي غضون يوم واحد كان قد شل حركة كل الفئران وجمعها في الأكياس مجددا ليخرجها الحراس ويدفنوها بعيدا عن المدينة، اغتنم زعفران فرصة تجمع السكان حوله وسط المدينة وقد تهللت وجوهم فخطب فيهم قائلا :” إن أردتم التخلص من الفئران للأبد فعليكم الاهتمام بنظافة محيطكم وبيوتكم، واحتمال كبير أن تعود مجددا إن واصلتم العيش على هذا النمط من الإهمال واللامبالاة، بل ومن الممكن جدا أن تهاجمكم أشياء أخرى كالصراصير والأمراض وغيرها من الآفات التي تلاحق المهملين والكسالى، وقبل أن أنسى أود أن أوضح لكم أن إخلاف الوعد والخداع يكلفان أكثر من الالتزام والصدق، عليكم بمراجعة أنفسكم، فبأيديكم الحل لجميع مشاكلكم.”
غادر زعفران مدينة الفئران مبتهجا وتوجه لبلدته الصغيرة والجميلة، وما إن وصل حتى رفع بصره نحو السماء الصافية، استنشق الهواء العليل المعبق برائحة الياسمين والريحان ثم راح يمشي بين أشجار الصفصاف والسنديان، يستمع بشغف لتغريد العصافير المختلط بصوت طواحين القمح وخرير الماء الجاري، لحظتها شعر بالارتياح والأمان وتذكر حال مدينة الفئران وما اعتراها من خراب وأدرك ما أنعم الله به عليه، فحمده وشكره وعزم أن يحافظ على هذه الأرض الطيبة ويخدم أهلها البسطاء الذين سارعوا للترحيب به عند رؤيته وكلهم شوق للاطمئنان على أحواله وسماع أخباره.
وما هي إلا أيام حتى قرر زعفران استثمار الألفي قطعة ذهبية في إنشاء مدرسة لعلم الأعشاب والنباتات الطبية، أطلق عليها تسمية “مدرسة همام ” وهو اسم والده الذي كان طبيب أعشاب سافر إلى الشام والهند والصين أين درس عند خبراء أعشاب وتعلم تصنيف النباتات الطبية وخصائصها العلاجية ومن ثمة عاد إلى بلدته وبقي يساعد الأهالي ويعالجهم فضلا عن تعليم ابنه زعفران وتنشئته وتوجيهه دوما إلى أن وافته المنية وقد ترك مصنفات قيمة في الأعشاب والعلاج الطبيعي استعان بها الابن البار المثابر في التعليم و البحث.
وبمرور الوقت تطورت المدرسة، تعددت فروعها وذاع صيتها، وصار الطلاب يقصدونها من مختلف المدن والقرى.
حقق زعفران نجاحا باهرا ومكاسب مادية كبيرة قام باستغلالها في تنمية بلدته ورفع الغبن والحاجة عن الأهالي الذين أحبوه واحترموه وتعاونوا معه ليعم الخير ويعيشوا بسعادة وهناء.