اخبار التعليم

تعليم تاريخ المستقبل وتكوين الوعي المستقبلي

إن معظم جهود تطوير مناهج التاريخ الدراسية في المجتمعات العربية تنصب حول الأحداث الماضية وعلى أفضل تقدير تتناول بعضا من أحداث الحاضر بغير تشكيل وعي خاضع للوضع السياسي القائم في الدولة. وبعض هذه الجهود التي تبذل في سبيل ذلك تركز بدرجة كبيرة على النواحي الشكلية، وبعض منها اتجه إلى منحيات وأطر تعتمد على التحسين وفقاً لأفكار معينة مثل: المعايير والجودة، والبعض الآخر يركز على التغييرات التكنولوجية وإدخالها في عملية التعليم. ومع التقدير الكامل لكل ذلك؛ إلا أننا نحتاج إلى تطوير نوعي لمناهج التاريخ الدراسية؛ حيث أن تقدم المجتمعات مرهون إلى حد كبير بما يحدث في نظامها التعليمي من تغيرات نوعية.

وأكاد أزعم أن التطوير النوعي للمناهج الدراسية يجب أن تنبع من التطورات الطارئة على المجتمع في المجالات المتعددة – خاصة تلك المجالات ذات الصلة الوثيقة بطبيعة هذه المناهج، ومراعاة التغيرات المستقبلية التي يتوقع حدوثها في المجتمعات، مع عدم إغفال بُعد خصائص التلاميذ ومستواهم ومراحلهم التعليمية، كما يجب أن تنبع من رؤى جديدة لمجالات المناهج الدراسية المختلفة.

ومن التطوير النوعي لمناهج التاريخ الدراسية ما يسميه البعض تاريخ المستقبل Future History، وإذا كان التاريخ كما يذكر المؤرخ شمس الدين السخاوي أنه فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان. ويرى عبد الحميد السيد أن التاريخ ليس سجلاً لحقائق الماضي فحسب، ولكنه في الوقت نفسه طريقة من طرق التفكير في الشؤون الإنسانية.
وإذا كان علم المستقبل Futurology: هو ” تخصص علمي جديد يحاول فيه الباحث تكوين صور مستقبلية متنوعة محتملة الحدوث، وفي ذات الوقت يهتم بدراسة المتغيرات التي يمكن أن تؤدي إلي احتمال تحقيق هذه الصور المستقبلية، وهذا العلم يهدف إلي رسم صورة تقريرية محتملة للمستقبل بقدر المستطاع”.

لكن هل مجال دراسة التاريخ يقتصر على الماضي فقط؟

تتعدد الآراء حول اقتصار مجال دراسة التاريخ على الماضي فقط، أم أنه يتعدى ذلك ليشمل الحاضر والمستقبل. وتكاد تجمع الآراء على أن الفائدة الكبرى من علم التاريخ تكمن في التعلم من الماضي، لتدبير الحاضر وتفسير أحداثه، ثم إنارة المستقبل والاستعداد له. فلا يجب أن يقتصر تدريس التاريخ على سرد أحداث واقعة تاريخية ما دون توضيح ما نتج عن هذه الأحداث التاريخية في الحاضر، وما يمكن أن تتركه من أثر في المستقبل، أو ما يؤول إليه الوضع في المستقبل.

ويرى حسن عثمان أن دراسة التاريخ تجعل المتعلم ” أقدر على حسن التصرف في الحاضر والمستقبل ” (حسن عثمان، 1996: 13) .
كما أن ” المستقبل هو علة التاريخ، بمعنى أن نظرة الإنسان إلى التاريخ وصورة وعيه به رهينة بالسعي نحو بناء مستقبل محدد المعالم تحفز إليه حاجة عملية، إذ بدون ذلك لا مكان للتاريخ بل لماضٍ متوهم، وبدون سعي الإنسان نحو مستقبل تحفزه وترسمه ضرورات عملية أو تستثيره تحديات كالبناء أو الفناء الحضاري، يكون الحديث عن التاريخ ضرباً من التحليق في الفراغ “.(شوقي جلال، 1995: 305).
وتُعرف عبير أحمد الوعي بالقضايا المستقبلية بأنه: إدراك الطلاب للقضايا المستقبلية المختلفة وفهمها واكتساب معارف ومعلومات حولها تتحول بعد ذلك إلى اتجاه ثم سلوك يتبعه بناء على هذا الاتجاه “.
ويمكن القول أن التعرف على المستقبل بشكل أكيد لا يمكن أن يأخذ صفة الموضوعية؛ فالتنبؤ بما ستكون عليه ظاهرة اجتماعية ما في المستقبل لا يمكن أن يكون كما هو الحال في الظواهر الاجتماعية، ولا يمكن أن نتيقن أن شيئاً سيحدث بصفة أكيدة.

إن دراسة المستقبل هي فحص منهجي وعلمي لظواهر حاضرة ذات تكوين يمتد في الماضي، وهي معنية بما يتصل بالأفعال الإرادية أو الاختيارية الناجمة عن تخطيط واع يأخذ في حساباته مجموع العوامل والمعطيات المتوافرة حاضراً والمحتملة مستقبلاً، والمبنية على العقل والمنطق والحسابات الدقيقة وعلى العلم وقوانينه ومبادئه، واستناداً إلى التجارب البشرية المتراكمة على مر العصور.

إن المستقبل هو رهان النهضة ومجال الفعل، ومن غير التفكير فيه والاستعداد لاحتمالاته، فإن واقع الضعف والتخلف لن يتحول بغتة إلى نهضة وتقدم من غير تخطيط لماض ذهب صار واقعا اليوم وأملا متجددا في المستقبل، فمهمة الوعي بالمستقبل تتركز على تحويل علم المستقبل من تخرصات وظنون وتنبؤات خرافية إلى علم له أساساته المنهجية، وتكوين إرادة التغيير والمدافعة الذاتية لتحديات المستقبل. كما تبرز أهمية الوعي المستقبلي في فهم وإدراك طبائع السنن التغييرية والتحولات الإنسانية وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن المستقبل وإهمال التعامل مع تحدياته.

ومن الوسائل المهمة لتحقيق ذلك هو اهتمام مناهج التعليم بتنمية وعي الأفراد تجاه المستقبل. وإذا كان الوعي بالمستقبل يبدأ من إدراك حقائق الواقع وتفاعلات عوامله، فإن الغرض الأسمى من التعليم هو محاولة السيطرة على المستقبل والمساهمة في تشكيله على أفضل صورة مرجوة، فالمستقبل هو محصلة لأفعال الأفراد في الحاضر .

ولعل معظم المشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية هي نتيجة لقصر النظرة المستقبلية التي كانت في الماضي بالنسبة لحاضرنا (ولنا في مشكلة فلسطين المثال الواضح للعيان حيث أننا كعرب لم نعطي اهتماماً للتوقعات والاحتمالات المستقبلية والتي لو رُوعيت لما كان الحال على ما هو عليه الآن بالنسبة لهذه المشكلة). فالمجتمعات العربية يسود بها نوع من عدم الاكتراث والاهتمام بالمستقبل ويتضح ذلك جلياً من كمية التراث الشعبي الهائل والمتمثل في الأمثال الشعبية التي تحض على الاتكالية وعدم الاكتراث بالمستقبل والتحسب له، ومن أمثلة ذلك الأمثلة الشعبية التالية:
أحييني النهاردة وامتني بكرة – اللى من نصيبك حيصيبك – اجرى جري الوحوش غير نصيبك ما تحوش – عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة – لا يغنى حذر من قدر.

والعالم العربي في حاجة إلى إعادة تشكيل العقلية العربية، بحيث يصبح التفكير في المستقبل على أسس علمية جزء من بنائها، كما أنه في حاجة إلى وضع مشروع قومي لاستشراف المستقبل على غرار ما يحدث في الدول المتقدمة، ولعل من أهم الركائز في مثل هذا المشروع هو توعية الناشئة بأهمية المستقبل والتخطيط والاستعداد له، وهذه هي مهمة الهيئات التعليمية على مختلف مراحلها، وهذا المتطلبات المستقبلية تلقي بظلالها على النظام التعليمي، وتجعل للتعليم دوراً هاماً وأساسياً في تنمية الوعي المستقبلي لدى المتعلمين، فالثقافة المستقبلية وتنمية الوعي بأهمية المستقبل، والعمل على نشر وترويج هذه الثقافة يجب أن يكون هدفاً ضمن أهداف السياسة التعليمية في مراحلها المختلفة بدءا من المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الجامعية.

تاريخ المستقبل :

تختلف الآراء حول تضمن دراسة التاريخ في المجال الزمني للبعد المستقبلي، وهل من الممكن التأريخ للمستقبل؟ بين مؤيد لذلك ومعارض له، وتتمثل حجة المعارضين في أن دراسة التاريخ يلازمها صعوبة التنبؤ بالمستقبل.
ولعل الارتباط القوي بين التاريخ و المستقبل نتج عنه ظهور بعض المقررات الدراسية المستحدثة والتي تندرج تحت مناهج الدراسات الاجتماعية، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك مقرر ” تاريخ المستقبل ” وهو مقرر دراسي يُدرَّس في أمريكا بالمرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية. وظهرت مصطلحات جديدة مثل: التاريخ المستقبلي، وهو يعني إمكانية التأريخ للمستقبل بالنسبة لقضايا معينة إذا توفر للمؤرخ إلمام كاف بمصادرها الأولية، وكان المؤرخ ذا بصيرة وقدرة كبيرة على الفهم والتحليل والتفسير والنقد والإدراك الواعي للعلاقات التي تربط بين الظواهر المختلفة. كما ظهر العديد من المصطلحات التي تربط بين التاريخ والمستقبل مثل: عودة إلى المستقبل، واسترداد المستقبل، وتاريخ الغد.

ويعد ” مستقبل التاريخ Future of the History ” رؤية جديدة للمجال الزمني لدراسة التاريخ، وإن كانت من المصطلحات التي قد تكون متناقضة في ظاهرها وقد لا يتقبلها البعض بسهولة حيث أن المعنى المتعارف عليه للتاريخ أنه سرد لأحداث الماضي.
ويمكن توضيح ذلك كما يلي :

إن ما ندرسه من أحداث تاريخية لا تعني بالضرورة أن هذا الحدث أو ذاك تم بهذه الكيفية التي ندرسها؛ وإن ما ندرسه ليس إلا تصوراً للمؤرخين عن كيفية وقوع الحدث، وذلك وفق مناهج وأساليب خاصة بذلك ترتبط بـ : جمع المراجع والأصول والوثائق التاريخية ونقد هذه المصادر من خلال النقد الظاهري External criticism، او النقد الباطني Internal criticism بشقيه النقد الباطني الإيجابي و النقد الباطني السلبي، و إثبات الحقائق التاريخية وتنظيمها وإنشاء الصيغ التاريخية وصولاً إلى العرض التاريخي.
وإذا علمنا بأن الزمن ما هو إلا سلسلة متصلة من الأحداث تبدأ بالماضي وتسير إلى الحاضر فإنه من المنطق أن نقول أن هذه الأحداث ستسير إلى المستقبل وبالتالي فإنه إذا أمكن رصد هذه الأحداث في الماضي – الغائب عنا – من خلال مناهج وأساليب خاصة بذلك، يمكن القول أنه يمكن رصد مسار هذه الأحداث في المستقبل – الغائب عنا أيضاً- من خلال مناهج وأساليب خاصة بذلك تُعرف بأساليب استشراف المستقبل.
ويرى هومفريس ليز Humphreys Les أنه من الممكن التأريخ للمستقبل من خلال نموذج قام بإعداده لهذا الغرض ضمنه مشروع التأريخ للمستقبل، ويستند هذا النموذج على نظرية Hينشتاينيان لنسبية الوقت Einsteinian Theory of Relativity of Time ، وذلك بغرض مساعدة الأفراد على اكتساب إحساس القوة والسيطرة على المستقبل. ويتضمن هذا النموذج ثلاث مراحل هي:

  • الأولى: وتهدف إلى مساعدة المتدربين على تنمية قدراتهم لإنتاج أنماط فكرية جديدة.
  • الثانية: وتهدف إلى تنمية القدرة على تحديد المسارات والبدائل المتعددة التي من الممكن أن يكون المستقبل عليها.
  • الثالثة: وتهدف إلى كتابة تاريخ للمستقبل في سيناريو يتضمن الأحداث المرجح وقوعها في المستقبل.

ويتضح ذلك بشكل كبير في دراسة كل من جان فوراستيه و كلود فيمون Jean Fourastie & Claude Vimont والتي نشرت في كتابها Histoire De Demain أو تاريخ الغد، حيث كان الهدف من هذه الدراسة ” توضيح مدى التباين بين المعضلات العائدة لهذه البلدان وبين الحلول التي يجدر اعتمادها ” (جان فوارستيه، كلود فيمون، 1970 : 7)، والتي ركزت على المعضلات الديموغرافية والاقتصادية التي ظهرت خلال الخمسينات.
لكن من الموثوق به أنه يمكن التأريخ للمستقبل من خلال وضع عدة سيناريوهات واحتمالات متوقعة لهذا المستقبل؛ أي أنه ليس هناك مستقبل واحد أكيد لكن هناك عدة مستقبلات محتملة ينبغي التعرف عليها والاستعداد لها، ومن المفيد جداً هنا أن يتم ذلك من خلال إنشاء آليات لاستشراف المستقبل في المجالات المختلفة تكون مهمتها وضع التصورات والسيناريوهات المتوقعة، كل في مجال تخصصه، سواء التاريخ السياسي أو الاقتصادي أو العسكري.

 

 

تعليم جديد

إغلاق