مفاهيم
التوجيه التربوي: مفهومه ـ أهميته ـ آلياته
من منا لم يسأل هذا السؤال في طفولته: ” ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟” سؤال رغم بساطته وبراءته بالنسبة للأطفال إلا أنه يحمل في طياته كل معاني تعقيدات فلسفة الحياة ويبقي الباب مفتوحا على مسار حياة إنسان خرج حديثا إلى الوجود. هذا المسار يتخذ أشكال مراحل و فترات من عمر الإنسان هدفها الأسمى هو تنمية الذات و التطلع لمستقبل أفضل. فالطفل أو الإنسان الصغير كما يسميه البعض يخضع منذ ولادته لنظام تربوي و أسري و مجتمعي تحدده توجهات أبويه و رغبتهما في اختيار مسالك التنشئة التي يريانها ملائمة لابنهما؛ ثم تأتي المرحلة المفصلية من حياة الإنسان وهي مرحلة الدراسة و التعليم، حيث يلج الطفل باب المدرسة لأول مرة وهو لا يدري أن مستقبله رهين بمساره الدراسي. وتعتبر هذه الفترة من حياة الإنسان بمثابة العضد والمحدد الرئيسي لكينونته ولمستقبله، لهذا ونظرا لما تكتسيه مرحلة الدراسة من أهمية، كان لابد من اتباع نظام ناجع للمواكبة والتتبع والإرشاد و التوجيه للمسار الدراسي و التكويني للطفل باعتباره إنسانا غير راشد، ليتسنى له اجتياز مراحله التعليمية في أفضل الظروف و اكتساب المهارات و القدرات الكفيلة بدخوله سوق الشغل بحسب مؤهلاته و ميولاته، و ليحظى بالمكانة التي يرغب بها في مجتمعه الصغير والكبير. وفي هذا الإطار و نزولا عند رغبة العديد من قرائنا الأوفياء ارتأينا أن نسلط الضوء على موضوع التوجيه التربوي لما له من أهمية كبرى بالنسبة لكل المعنيين و المتدخلين في الشأن التربوي و التعليمي سواء أ كانوا تلاميذا أو آباء أو فاعلين تربويين أو مسؤولين حكوميين . ونتمنى أن يجد المهتمون بهذا الموضوع ضالتهم في مقالنا هذا الذي سيتناول بالدرس و التحليل مفهوم التوجيه التربوي انطلاقا من النظريات و المقاربات الأساسية المتداولة في هذا المجال مرورا بالبنيات و الآليات المعتمدة فيه و كذا أدوار الفاعلين ، لنعرج في الأخير على إبراز أهمية التوجيه التربوي خصوصا في التغلب على هواجس الاختيار و سنقتصر على مرحلة ما بعد الثانوية العامة نموذجا.
1- مفهوم التوجيه التربوي
ورد في لسان العرب لابن منظور:”يقال شيء موجه إذا جعل على جهة واحدة لا يختلف، ويقال: خرج القوم فوجهوا للناس الطريق توجيها إذا وطئوه وسلكوه حتى استبان أثر الطريق لمن يسلكه.. ووجهت الريح الحصى توجيها إذا ساقته ”
من خلال هذا التعريف المقتضب يتضح أن لمفهوم التوجيه التربوي لغويا معنيين:
الأول تعبيد الطريق دون الإكراه في سلوكه، والثاني السَّوق الذي يستبطن الإكراه.
أما في مجال التربية و التعليم و حسب “جون كيشار”، يأخذ مفهوم التوجيه التربوي ثلاث معان و أبعاد مختلفة: حيث ” يشير أولا إلى مجموع المساطر و الآليات المؤسساتية التي تعمل على توزيع المتمدرسين على مختلف الشعب و المسالك الدراسية و التكوينية؛ كما يشير إلى مجموع الأنشطة والسيرورات الفكرية التي يقوم بها شخص ما، والتي تمكنه من اختيار مسار تكويني أو مهني معين؛ وأخيرا يدل مفهوم التوجيه التربوي على مجموع التدابير و الممارسات التي يقوم بها مختصون، من أجل مساعدة الأفراد على التوجيه الذاتي كما ورد البعد الثاني أعلاه. ”
إلى البعد الأول المؤسساتي يشير الأستاذ مصطفى محسن في إحدى مقالاته بمجلة عالم التربية “بما أن التوجيه التربوي يعد من بين أهم آليات و وسائل عقلنة الشأن التربوي التكويني، فإنه ينتظر منه و بحكم هذه الخاصية بالذات أن يساهم في دعم مجمل عمليات و آفاق دمقرطة أنظمة التربية و التعليم و التكوين، وذلك عبر التحكم النظري و المنهجي في أساليب و طرائق و نماذج التقييم و الفرز و الاصطفاء و توجيه الأفراد بناء على ما يتوفرون عليه من اختيارات و مشاريع دراسية أو مهنية أو مستقبلية واضحة، وأيضا بناء على الكفاءة و القدرة و الأهلية و الجدارة و الاستحقاق.”
و حول البعد الثاني كسيرورة ذاتية تتمحور جل الأدبيات المتعلقة بالمشروع الشخصي للتلميذ أو الطالب، حيث يمثل سيرورة ينكب المتعلم عبرها على البحث عن صيغة للعمل الذاتي من شأنها أن تحقق أقصى درجة للملاءمة بين قدراته و تطلعاته و الفرص المتاحة أمامه”.
وفي سياق النزعة الفردانية للمجتمعات الحديثة المتسمة بتفكك البنيات الاجتماعية التقليدية وتنامي اللايقين، يأخذ البعد الثالث من أبعاد مفهوم التوجيه التربوي كل دلالات و معاني المساعدة على التوجيه كمجموعة من الإجراءات و التدابير و الأنشطة و الممارسات و الخدمات التي يتم تقديمها من طرف مجموعة من المتدخلين: مختصين في مجالات التوجيه التربوي و علم النفس و التشغيل و أطر تربوية و إدارية و غيرها بهدف مساعدة المتعلمين و الطلبة و المعطلين و حاملي المشاريع بل حتى العمال و المستخدمين و الموظفين على بناء مشاريعهم الشخصية و المهنية بتنمية مجموعة من الكفايات أهمها بناء الذات من خلال اختيارات مدرسية و مهنية و حياتية.
خلاصة: في خضم هذه التعاريف المتعددة الأبعاد يمكننا أن نستشف أن التوجيه التربوي هو عملية منظمة تهدف إلى مساعدة الفرد على فهم ذاته و معرفة قدراته و اكتشاف ميولاته لحل مشكلاته و الوصول به إلى نوع من الملاءمة بين تطلعاته و مؤهلاته من جهة و احتياجات المجتمع والفرص التعليمية والمهنية المتاحة من جهة أخرى.
2- النظريات و المقاربات الأساسية المتداولة في حقل التوجيه التربوي
يمكن اختزال التيارات الأساسية التي أطرت تطور حقل التوجيه التربوي في ثلاثة تيارات أساسية:
التيار البسيكومتري: يعتبر بارسنز من أهم مؤسسي هذا التيار حيث يرى أن الاختيار المهني هو توفيق بين قواسم و مؤهلات الأفراد من جهة، و مميزات و متطلبات المهنة من جهة أخرى؛ و يعتمد منظرو هذا التيار الروائز بشكل أساسي لحسم الاختيار. إلا أنه نظرا لطابعه الستاتيكي تعرض التيار البسيكومتري لعدة انتقادات أجمعت كلها على ضرورة استحضار الطابع الدينامي لكل من المهنة والفرد على أساس أن لا شيء ثابت في مجتمع متحرك و متحول باستمرار.
التيار السلوكي: يرى أصحاب هذا التيار بأن سلوكات الأفراد تظهر وتستمر بفعل مؤشرات المحيط الذي يتواجدون فيه؛ وكما هو معلوم فالتيار السلوكي مبني على مبدإ مثير/ استجابة وبالتالي فإن الاختيار المهني و الدراسي ما هو إلا استجابة لمثيرات الوسط والمجال الذي يتحرك فيه الفرد سواء كان هذا الوسط دراسيا أو اجتماعيا أو طبيعيا. وعليه فالمنظور السلوكي يدعو إلى تنظيم وتأطير وسط الفرد/التلميذ و فسح المجال أمامه لتعديل سلوكاته بشكل عفوي، فالتدخل إذن يكون على مستوى وسط ومحيط الفرد وليس الفرد بحد ذاته.
التيار الإنسانوي: حاول هذا التيار تجاوز السلبيات و الانتقادات التي وجهت للتيارين السالفين، عبر طرح منظور فلسفي جديد يرى أن الفرد كائن اجتماعي عقلاني و واقعي له من القدرات و الإمكانات ما يؤهله لحل المشاكل التي تعترضه إذا ما توفرت له الظروف المناسبة.. و يعتبر التيار الإنسانوي الفرد بكلياته (الفيزيولوجية، النفسية، الروحية) نسقا مفتوحا في تفاعل مستمر مع محيطه، يتطور من خلال التجربة.. و تمثل التجربة الإنسانية إضافة نوعية في هذا المنظور بكل ما تعنيه من فعل و ممارسة و تدخل و محاولة للخطأ و الصواب.
وقد تمخضت عن مختلف التيارات الفكرية السالفة مجموعة من المقاربات كان همها الأساسي بلورة و صياغة نماذج تطبيقية عملية قابلة للأجرأة و الاندماج في واقع المؤسسة التعليمية، و سوف نعمل على إبراز أهم عناصر و مساقات هذه المقاربات في الفقرة التالية:
مقاربة التربية على المهن
برزت السياسات الأولى للتربية على المهن في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972 على يد هويت، حيث كان يقصد بها ذلك المجهود الذي تبذله الجماعة البشرية و النسق التربوي بهدف مساعدة الأفراد على الاستئناس بقيم المجتمع الموجه نحو العمل، ومن تم إدماج هذه القيم في نسقهم الشخصي و الحياتي ليصبح العمل ممكنا و معبرا ومريحا لكل فرد و الغاية من هذا كله هي إكساب الفرد درايات وخبرات العمل مفهوما وتوجها وممارسة.
أما من الناحية الإجرائية فتعرف التربية على المهن بأنها مجموع المعارف و المهارات والاتجاهات الضرورية لكل فرد ليصبح العمل منتجا وذا معنى، وجزءا من أسلوب حياته.
تبقى الإشارة إلى أنه وجب التمييز بين مفاهيم: التربية على المهن – التوجيه المهني – النمو المهني، رغم أنها موضوعات متلاحمة وليس لأحدها فائدة بدون الآخر؛ فالتربية المهنية تشجع النمو المهني و التوجيه المهني يوجه التربية المهنية.
ولاعتبارات أو لأخرى تبقى المؤسسة التعليمية المكان الأنسب لتجسيد هذه المفاهيم كاملة.
مقاربة التربية على التوجيه
إذا كانت التربية على المهن قد ركزت على إعداد وتأهيل الفرد للاندماج في سوق الشغل حيث عملت على تسهيل الانتقال من عالم المدرسة إلى عالم الشغل فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية.. وفي ظل تنامي اللايقين وعدم الاستقرار وفي ظل ظهور مهن جديدة واختفاء أخرى، فرضت مراجعة عامة لأنظمة التوجيه واعتماد مقاربات جديدة تمكن الفرد من مجابهة مشاكل الحياة ومسايرة عالم التحولات.
وفي هذا السياق برزت مقاربة التربية على التوجيه في فرنسا سنة 1989 تقوم فلسفتها على الجمع بين الأهداف السوسيواقتصادية و السوسيوسياسية المندمجة في إطار إرادة جماعية منظمة لتغيير الإطار البيداغوجي و التربوي الممارس من خلال: أنشطة الحياة المدرسية، وتحديد المسالك و المسارات الدراسية.. و تقوم هذه المقاربة على أربعة مبادئ أساسية:
مبدأ الاستمرارية: وذلك عبر جعل المشروع الشخصي للتلميذ سيرورة مستمرة في تطور ونمو دائمين مع قابلية التكيف المتواصل.
مبدأ العمل الجماعي: من خلال تدبير تشاركي بين مختلف أعضاء الفريق التربوي والشركاء الآخرين (التلاميذ ‑ الأسر ‑ الإدارات ‑ المقاولات ‑ الجمعيات.. ) كل من موقعه في أفق تحقيق تكامل الأدوار والمهام والمساهمات.
مبدأ الانسجام: انسجاما مع روح العمل الجماعي من خلال برامج وأنشطة من لدن عدة جهات تكون منسجمة و متناغمة فيما بينها و موحدة الأهداف عوض الاقتصار على شخص معين تناط له مهمة التوجيه.
مبدأ التوافق: نظرا لاعتماد هذه المقاربة على عدة فاعلين في المجال يعمل هذا المبدأ على نهج انخراط توافقي لهؤلاء قصد تسهيل انفتاح التلميذ على محيطه الاجتماعي و الاقتصادي.
مقاربة المدرسة الموجهة
يرجع الفضل في الظهور الأول لهذه المقاربة لمجموعة من مستشاري التوجيه بكندا و ذلك سنة 1993 من خلال إبراز الوظيفة التوجيهية في مهام المؤسسة التعليمية؛ إلا أن تجريبها لم يبدأ إلا سنة 1997 في إطار برنامج دعم المدرسة المونتريالية، لتجد تجسيدا لها في المؤسسات التعليمية فيما بعد من خلال مجموعة من النصوص التنظيمية.
و الجديد والمثير في هذه المقاربة هو طابعها الشمولي و الكلي و الإرادة الواضحة و القوية لإقحام جميع الفاعلين التربويين و الاجتماعيين و الاقتصاديين.. وتعبئتهم في انسجام و تعاون تام حول التلميذ أو الطالب. وهكذا نجد أن مقاربة المدرسة الموجهة أو المقاربة الموجهة كما تسمى أيضا تعتمد على مجموعة من المبادئ أهمها:
مبدأ الإدماج: من خلال منظور مندمج لقضايا و انشغالات التوجيه التربوي في المنهاج الدراسي بكل مستوياته و مكوناته وفق سياسة موجهة تراهن على تنمية كفايات حسن التوجيه بالنسبة للتلميذ أو الطالب ليجد له موقعا في المجتمع كإنسان و كمواطن و كعامل..
مبدأ الشراكة و التعاون: من خلال إرساء شراكة حقيقية سواء داخل المؤسسة أو خارجها وخاصة مع أولئك الذين لهم دور أساسي في بلورة الهوية المهنية و الاجتماعية و النفسية و الصحية للتلميذ.
مبدأ التعبئة: من خلال تعبئة وتحفيز التلميذ للانخراط بفعالية في سيرورة توجيهه باعتباره فردا حاملا لمشروع يستشرف المستقبل ويتفاعل بديناميكية مع المحيط الدراسي و التكويني والمهني.
وبهذا تصبح خدمات الإرشاد و المساعدة على التوجيه حسب المقاربة الموجهة ناظمة لكل الأنشطة و التدخلات وتصرف وفق فريق موجه ممتد داخل المؤسسة وخارجها.
نظرا لكون هذه المقاربة تظل الأكثر ارتباطا بالمدرسة أو المؤسسة التعليمية و لكونها تبرز الدور الريادي لهذه الأخيرة في التوجيه التربوي، سوف نعتمدها بشكل أساسي في تحديد المتدخلين و أدوارهم إضافة إلى الآليات المعتمدة في هذا المجال.
3- المتدخلون وأدوارهم في عملية التوجيه
يصعب في الوقت الراهن حصر المتدخلين في عملية التوجيه التربوي نظرا لكون هذه العملية بات يتجاذبها عدد كبير من الفاعلين من محيط التلميذ أو الطالب. غير أن هذا لا يمنع من إبراز أدوار أهم هؤلاء المتدخلين، وذلك باعتماد المقاربة الموجهة كإطار للعملية؛ وهكذا نجد أن:
- المتعلم: هو الفاعل الأول في مشروعه الدراسي و المهني و بالتالي يتوجب عليه أن يكون نشيطا في سيرورة التعلم وسيرورة تنمية مساره على حد سواء، وذلك من خلال المشاركة في أشغال اللجان التي تبث في قضايا تهم مستقبله؛ و الانخراط بفعالية في مختلف أنشطة التوجيه التربوي سواء داخل الفصل الدراسي أو خارجه، داخل المؤسسة التعليمية أو خارجها؛ بالإضافة إلى الاستفادة من تجاربه و تعلماته في تحديد نقاط قوته و ضعفه وقيمه وانتظاراته.
- المدرسين: يسهرون من خلال طرق تدريسهم على إعطاء معنى للتعلمات و على جعل المواد الدراسية منمية لمجموعة من الكفايات المستعرضة منها:
- معرفة استعمال مصادر المعلومة.
- القدرة على العمل في فريق.
- القدرة على تقويم وضعية من خلال إيجابياتها و سلبياتها.
كما يقوم المدرسون بمساعدة التلاميذ على بلورة مشروع شخصي ناجح عبر رصد مختلف قدراتهم و إمكاناتهم و محاولة نسج العلاقة اللازمة بين التعلمات و سياقها المهني في عالم الشغل.
- الأسرة: تتدخل في الحياة المدرسية بصفتها معنية بتتبع المسار الدراسي لأبنائها، ويتم ذلك بكيفية مباشرة وفي تكامل وانسجام مع المدرسة. ويكون هذا التتبع مفيدا في تشخيص التعثرات في حينها و اتخاذ التدابير المناسبة لتجاوزها؛ ومن جهة أخرى تساهم الأسرة في توضيح اختيارات التلميذ وتوجهاته الدراسية والمساهمة في بلورتها انطلاقا من ميولاته و مؤهلاته لإعداد مشروعه الشخصي.
- المستشار في الإعلام و التوجيه: يشارك في إعداد برنامج التوجيه المدرج ضمن مشروع المؤسسة؛ وبحكم درايته و تخصصه في المجال يقترح أنشطة خاصة مكملة للأنشطة الصفية كما يقوم بإجراء المقابلات الفردية مع المتعلمين و بتلبية طلباتهم و طلبات أولياء أمورهم حول الإعلام و الإرشاد و التوجيه، وبمساعدة المدرسين والتنسيق معهم في الأنشطة المرتبطة بالإعلام المدرسي و المهني.
- إدارة المؤسسة: تسهر على جعل خدمات الإعلام والتوجيه ضمن أولويات وانشغالات المؤسسة التربوية بالموازاة مع خدمات التربية والتعليم وذلك بإعداد وتسطير برنامج عمل سنوي أو دوري يتضمن مكون التوجيه التربوي و خدمات الإعلام و الإرشاد، والعمل على أجرأته بتوفير الموارد الخاصة و تحديد المهام و المسؤوليات و الانفتاح على الشركاء الاجتماعيين و الاقتصاديين..
- الشركاء الاجتماعيين و الاقتصاديين: يتم إشراكهم في سيرورة المقاربة الموجهة من خلال حضورهم مجالس و اجتماعات المؤسسة و من خلال تدخلاتهم التأطيرية لأنشطة الإعلام والتوجيه و تيسيرهم زيارات التلاميذ و الطلاب للمقاولات و المؤسسات الإنتاجية مع توفير قاعدة بيانات عن المهن المرتبطة بهذه المؤسسات و شروط ولوجها و مساراتها المهنية.
وفي هذا الصدد وجب التذكير بأن انفتاح المؤسسة التعليمية على شركائها الاجتماعيين والاقتصاديين يجب أن لا يفقدها استقلاليتها و هويتها التربوية و الاجتماعية كما لا يجوز إعطاء الأولوية لطرف على حساب آخر أو تمييز لأحدهم، فتنوع الشركاء و تعددهم يجعل الجهود تتكامل و الطاقات تتساند.
4- بنيات و آليات التوجيه التربوي
يعتبر هذا المحور من أهم المحاور التي يتناولها هذا المقال نظرا لطابعه العملي و الإجرائي حيث لا يمكن الحديث عن توجيه أو إرشاد تربوي بدون بنيات وأدوات الاشتغال، ولهذا سنحاول قدر الإمكان أن نخصص حيزا هاما لهذا المحور و نربطه بالمحاور السابقة حتى يتم التكامل المطلوب و تكتمل نسقية الموضوع.
كل قطاع يقدم مجموعة من الخدمات لابد له من بنيات وأدوات عمل ضرورية للقيام بالعمليات الخدماتية المطلوبة منه؛ وبما أن مجال التوجيه التربوي يدخل في خانة الخدمات بشكل أو بآخر، كان لابد من إرساء هياكل و بنيات أساسية و توفير أدوات و آليات مناسبة لكي يضطلع بأدواره كاملة و المحددة له مسبقا.
ولإبراز هذا كله سيتم اعتماد الدور الوظيفي و الخدماتي للتوجيه التربوي كمنطلق و كمدخل استراتيجي و ذلك وفق مقاربة علمية و مؤسساتية وتنظيماتية.
أ- بنيات التوجيه التربوي
- القطاع المدرسي: يعتبر القطاع المدرسي من أهم البنيات التي تهدف إلى تقريب خدمات التوجيه التربوي من الفئات المستهدفة من التلاميذ و الطلاب و الفاعلين التربويين و الاجتماعيين وذلك بإدماج مستشار الإعلام و التوجيه ضمن الفريق التربوي و الإداري للمؤسسة التعليمية.
- مراكز الإعلام و التوجيه: هي بمثابة مؤسسات تربوية خدماتية محلية منفتحة على جميع المعنيين بقضايا الإعلام و التوجيه و التقويم؛ حيث تساهم ضمن مجال اختصاصاتها في تطوير تدخلات أطر التوجيه و تقديم الدعم اللازم للمؤسسات التعليمية فيما يخص خدمات الإعلام و الإرشاد و التوجيه.
- خلايا إنتاج وثائق الإعلام: تسهر على إنتاج المادة الإعلامية اللازمة على شكل: ملصقات ‑مطويات – كراسات كتيبات – أشرطة سمعية بصرية.. و جعلها رهن إشارة التلاميذ و الفاعلين التربويين و الاجتماعيين حسب حاجياتهم و متطلباتهم الأساسية؛ كما تقوم هذه الخلايا بدراسات و بحوث و تربط الاتصال بين كل الفاعلين و المتعاونين في مجال الإعلام المدرسي و الجامعي و المهني.
- مراكز إرشاد الطالب: هي مراكز تابعة للتعليم العالي تقوم بتقديم إرشادات لطلاب الجامعات و مدهم بكل ما يلزم للمساعدة على التخصص الدراسي، كما تقوم بمواكبتهم طيلة مشوارهم الجامعي و إعلامهم بالآفاق التكوينية و المهنية لكل مسلك أو تخصص.
ب- آليات التوجيه التربوي
تتعدد آليات التوجيه التربوي و تتنوع بتنوع المتدخلين في هذا المجال؛ و لهذا فقد ارتأينا تكثيفها في ثلاثة محاور أساسية و ذلك بحسب طبيعة ونوع التدخلات.
تدخلات إنمائية و تطويرية: من خلال خدمات متمحورة حول تطوير و إنماء قدرات و كفايات سيكو-اجتماعية للتلميذ وذلك عبر:
- المقابلة الفردية والجماعية.
- المقاييس النفسية والتربوية.
- أنشطة المساعدة على التوجيه.
- أنشطة الحياة المدرسية.
- تحليل و استثمار النتائج المدرسية و المعطيات الشخصية.
- استضافة أشخاص مصادر.
- زيارات ميدانية.
- هندسة المشاريع الشخصية و مشاريع المؤسسة..
تدخلات ذات طابع علاجي: تتجسد في مساعدة التلميذ على تدبير مساره الدراسي و إعداده للمستقبل بوعي و مسؤولية على ضوء معرفة نفسية، ومعرفة بواقع المدرسة و المجتمع الذي يعيش فيهما؛ و تنمية قابليته لحل و معالجة مشكلاته ذات الطابع البيداغوجي و الاجتماعي و النفسي و الصحي و التربوي.
و تتم هذه التدخلات من خلال:
- المقابلات
- استثمار المعطيات و النتائج المدرسية
- بلورة استراتيجيات للدعم
- الأنشطة الموازية
- استبيانات الشخصية..
تدخلات للوقاية: تتمركز في تحييد كل المعيقات و الإكراهات المعرقلة لاندماج التلميذ و تكيفه مع وسطه السوسيوتربوي؛ ولهذه الغاية يمكن توظيف:
- التتبع الفردي للتلميذ أو الطالب
- الملاحظة المنظمة
- جلسات الانصات و الاستماع
- التواصل مع الأسرة
- بحوث تربوية
- كشوفات التوجيه
- روائز بسيكوتقنية
- استثمار الملفات المدرسية
خلاصة: إن التوظيف الأمثل لهذه البنيات و الآليات يبقى رهينا بأدوار المتدخلين و مدى التزامهم بواجباتهم و إدراكهم لأهمية التوجيه التربوي؛ وهذا يفرض تحيينا و تطويرا مستمرين لتدخلات جميع الفاعلين، و الاشتغال ضمن منطق عقلنة و ترشيد القرارات التربوية سواء الفردية منها أو المؤسساتية.
5- أهمية التوجيه التربوي في التغلب على هواجس الاختيار
لا تخفى على أحد أهمية التوجيه بالنسبة للتلميذ أو الطالب خصوصا عندما يصل إلى مراحل حاسمة من مساره الدراسي أو يكون أمام عدة خيارات دراسية أو تكوينية أو مهنية.
وسنحاول في هذا المحور الأخير أن نبرز كيف يمكن للتوجيه التربوي أن يبدد هواجس الاختيار لدى التلميذ أو الطالب و سنقتصر على مرحلة ما بعد الثانوي نموذجا؛ نظرا لكون هذه المرحلة هي بدون شك أهم مرحلة في تجسيد و أجرأة الاختيار وتحمل تبعاته و تكلفته النفسية و المادية. وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين ثلاثة أساليب في الاختيار من طرف التلاميذ الذين يلجون الجامعات و المعاهد العليا:
- الأسلوب الأول في الاختيار يتم بشكل متردد و عشوائي دون أية دراسة عميقة لمعطيات الذات و مميزات المسار الجامعي المختار، و ينتهج هذا الأسلوب التلاميذ الحاصلين على نتائج متواضعة و غالبا ما تعترضهم مشاكل تتعلق بسوء الاختيار.
- الأسلوب الثاني تتبناه فئة عريضة من التلاميذ تلتصق اختياراتهم بنوعية الدراسة انطلاقا من نتائجهم و حصيلتهم الدراسية.
- أما الأسلوب الثالث فيهم التلاميذ الذين يمتلكون رؤية و تصورا تتداخل فيه الدراسة بمشروع مهني متوسط أو بعيد المدى يكون حافزا على تنظيم دراستهم وربط علاقات مع المحيط عن طريق البحث و التحليل و العمل، وغالبا ما تكون الاختيارات المبنية على هذا الأسلوب موفقة.
غالبا ما يكون الانتقال من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية مشوبا بقلق و توتر شديدين بالنسبة للتلميذ، خصوصا إذا غابت عنه إجراءات المصاحبة و الدعم النفسي
و الاجتماعي و المساعدة على التوجيه. ففي هذه المرحلة يطرح التلميذ مجموعة من التساؤلات وحده الأستاذ أو المستشار الموجه كفيل بالإجابة عنها، و تتخذ هذه التساؤلات عدة أشكال من قبيل:
- أسئلة طلب معلومات: تتعلق بالهندسة البيداغوجية المعتمدة في الجامعة أو المعهد، و شروط و صيغ الولوج، و أنظمة الدراسة و التقويم، و مدة الدراسة،
و آفاق الشعبة، و قيمة الدبلومات و الشواهد المحصل عليها، وفرص الشغل المتاحة..
- أسئلة الاستشارة: و تتعلق بمختلف المسالك و الشعب الجامعية التي تتلاءم مع إمكانيات و ميولات و اهتمامات التلميذ.
- أسئلة التقييم النسبي: وهي أسئلة من قبيل: لدي اهتمام بالرياضيات و أرغب في الحصول على شهادة عليا؛ أو أحب ممارسة مهنة التدريس و أرغب في الحصول على دبلوم تخصص، كيف يمكن التوفيق بين كل ذلك؟..
- أسئلة التقييم المطلق: أنا ضعيف في الإنجليزية و أرغب في دراسة الاقتصاد، هل ذلك ممكن؟ و كيف يمكن أن أنجح في ذلك؟..
إن الوعي بطبيعة هذه التساؤلات يعتبر خطوة أولية نحو مساعدة التلميذ على إيجاد أجوبة لها، ودفعه نحو تعميق البحث من أجل الوصول إلى المعلومات المحينة والمضبوطة و الشاملة؛ وذلك عبر توظيف و استثمار مختلف بنيات و آليات التوجيه
و تعبئة مصادر الإعلام و الإرشاد من أطر التوجيه التربوي، وبنيات الإعلام و التوثيق و المساعدة على التوجيه، و الجامعات، و المعاهد، و المواقع الإلكترونية، و الزيارات الميدانية، و المنتديات الإعلامية، و الأبواب المفتوحة، و المراكز الثقافية الأجنبية.. و ذلك حتى يتمكن التلميذ من معرفة موضوعية لذاته و محيطه و ما يوفره من مؤسسات و كذلك المعاهد و المدارس المتاحة، بالإضافة إلى فرص الاندماج في سوق الشغل.
خاتمة
إن أهمية التوجيه التربوي لا تكمن فقط في حسن الاختيار و الحصول على مهنة المستقبل بالنسبة للتلميذ أو الطالب، بل هو منظومة متكاملة العناصر و الأبعاد يؤدي فشلها إلى فشل النظام التعليمي ككل، فلا يمكن لأي نظام تعليمي أن يساير تحولات الحاضر و المستقبل دون تبني نظام للتوجيه يعتمد استراتيجية الرصد المبكر و المقاربة الاستباقية و التخطيط الناجع لتهييء انتقال الأفراد بين أنظمة التربية و التكوين و عالم الشغل، و تحقيق الانسجام و التفاعل الايجابي بين هذه الأنظمة؛ ومساعدة الأفراد على امتهان الأعمال و الوظائف والتأهيل لها و المحافظة عليها و الارتقاء فيها و استبدالها عند الضرورة.
لقد أصبح موضوع التوجيه التربوي ذا أولوية كبرى لدى صناع القرار في مختلف الأقطار، نظرا لكون السياسات العمومية أصبحت رهينة النظام التعليمي لكل بلد، و نظرا لأن نسق التوجيه التربوي بكل أبعاده هو جزء أساسي من النظام التعليمي، فتجويد السياسات و المخططات الحكومية بتجويد القرار التربوي، وتجويد القرار التربوي بتجويد التوجيه التربوي. و كل فشل في التخطيط لبناء القرار هو تخطيط في نهاية المطاف لإفشال هذا القرار.