مفاهيم
مفهوم الجودة في التربية والتعليم
توطئة
التعليم والتربية وجهان لعملة واحدة، على اعتبار أن التعليم هو محاولة لتمكين المتلقي من المقاييس المحكّمَة في الموضوعات المدروسة، من أجل إعداد وتربية جيل وفق نموذج يسعى القائمون على ترسيخه لدى فئات تختلف باختلاف تركيبتها النفسية والفيزيولوجية وطباعها وكذا تنشئتها الاجتماعية.
ولعل من المفاهيم التي استأثرت باهتمام الفاعلين في مجال التعليم مؤخرا؛ نجد ما اصطلح عليه بـ ” الجودة ” (Quality)، وهو -للإشارة- مفهوم نشأ في أحضان عالم الاقتصاد والصناعة والمال في ثمانينيات القرن الماضي، بهدف تشجيع المقاولات والمنشآت على تبنّي نمط تدبيري يقوم على تجويد الخدمات والمنتجات وتطويرها لدخول عالم المنافسة؛ من أجل حصد أرباح أكثر وبأقل تكلفة. وقد استعير فيما بعد من طرف مجموعة من المؤسسات؛ ومنها قطاع التربية والتعليم؛ وإن بمقادير مختلفة تراعي الخصوصية.
فالجودة باعتبارها قيمة يُحتكم إليها لبلوغ أهداف محدّدة، تستدعي وضع خارطة طريق لتحقيق ذلك. خصوصا أمام الأسئلة الشائكة التي أصبحت تستلزم أجوبة موضوعية لكل الإشكالات المطروحة في مجال التعليم؛ ومن بينها رهان التنمية وضرورة تحديث البرامج والآليات في مجموعة من المستويات؛ سواء تعلق الأمر بالتنظيم الإداري أو بالمؤطرين الذين يسهرون على توصيل المواد الملقّنة، أو ارتبط الأمر بعلاقة ذلك كلّه بضبط العملية التواصلية أفقيا وعموديا مع صانعي القرار في المنظومة التعليمية، أو ارتبط الأمر بالانفتاح على الفاعلين والمهتمين بقضايا التربية والتعليم باعتبارها أحد أعمدة المجتمعات المتقدمة.
لكن الوصول إلى النتائج الإيجابية ليس طريقا مفروشا دائما بالورود، بل كثيرا ما تظهر صعوبات في تنزيل البرامج المؤطّرة لعملية التكوين في مهن التربية. لعلّ أبرزها هو إشكالية الجودة في ارتباطها بالتنمية وعلاقتها بتحديث البرامج وآليات الاشتغال.
أولا- مفهوم الجودة
منذ القديم والإنسان في سعي مستمر لتطوير نفسه في إطار تفاعلاته مع محيطه، سواء في إطار فردي، أو من خلال الانخراط في جماعات أو مؤسسات خاصة أو عمومية. فمبدأ تجويد الخدمة أو المنتج تطوّر عبر العصور بشكل تدريجي، حتى استقر في أشكال تبنّت طرقا مُعقلنة ومضبوطة تعمد إلى مبدأ الاستراتيجية والتخطيط. صحيح أن مفهوم الجودة نشأ في عالم المال والتجارة والاقتصاد، والأكيد أن هذا المفهوم غايته الربح والانفتاح على أسواق أخرى في ظل التنافسية. لكن مع مرور الوقت استعير هذا المفهوم من طرف مجموعة من المؤسسات ذات النفع العام. ولعل قطاع التعليم من بين القطاعات التي استلهمت مبادئ هذا المفهوم الاقتصادي ليصبح قيمة مضافة في تطوير الخدمات والرفع من مستوى الأداء في المنظومة التربوية.
– التأصيل لمفهوم الجودة
إذا عدنا للسان العرب وتتبعنا مادة ( ج ا د) نجد أن “الجَيِّد نقيض الرديء […] وجاد الشيءُ جُودة وجَوْدة أَي صار جيِّداً وأَجدت الشيءَ فجاد والتَّجويد مثله، وقد قالوا أَجْوَدْت […] ويقال هذا شيء جَيِّدٌ بَيِّن الجُودة والجَوْدة وقد جاد جَوْدة وأَجاد أَتى بالجَيِّد من القول أَو الفعل ويقال أَجاد فلان في عمله وأَجْوَد وجاد عمله”. وأَجادَ ” أَتى بالجيِّد من قولٍ أَو عملٍ”. “أَجاد الشيءَ وفيه “.جود القارئ :أتى بالتلاوة على وجهها الحق وراعى أحكام التجويد في القرآن” و “جود العمل :أتقنه وأحسن صنعه “.
نقول” جيد الرأي: محكمه وسَدِيدِهِ، جيد النظم: حسن السبك، جيد جدا :بالغ الجودة.” جودة “مصدر جاد، سلامة التكوين وإتقان الصنعة”. جَوْدَة الفَهْم بكونها “صحَّة الانتقال من الملزومات إلى اللّوازم”.
من خلال الوقوف على المضامين المثبتة في التعاريف أعلاه، يمكننا استخلاص النتائج التالية؛ أنّ التعريف اللغوي المقدم يسعفنا في الإقرار بأنّ الجودة مرتبطة تلقائيا بالإتقان والإحسان في القول والعمل والصنعة. وأنّها ضد الرداءة وسوء التدبير في الأمور المرتبطة بالتفاعلات.
لكن بالعودة إلى ما جادت به التعاريف الغربية لمفهوم الجودة فنجد أنّها قيست بـ “معيار شيء يتم قياسه مقابل أشياء أخرى من نفس النوع ، واعتبرت كذلك ” درجة التميز لشيء ما”. وأنّها “تحسين في جودة المنتج” و” سمة ممّيزة يمتلكها شخص ما أو شيء ما”.
وعرّفها إيشيكاوا (Ishikawa) بأنّها “القدرة على إشباع الزبون”. وقرنها فيشر Fisher بـ ” درجة التألق والتميّز؛ وكون الأداء ممتازا أو كون خصائص أو بعض خصائص المنتج ممتازة عند مقارنتها مع المعايير الموضوعة من منظور المنظمة أو من منظور المستفيد /الزّبون”.
و من خلال التدقيق في ما جمعته من تعاريف؛ يُلاحَظ أنّ الجودة؛ تقوم على المقارنة بين مستويين، أو لنقل بعبارة صريحة شيئين ينتميان إلى نفس النوع، حيث ينظر إلى مدى تميّز أحدهما عن الآخر. والهدف من ذلك هو إشباع رغبات الزبون أو المتلقي وتحقيق مبدأ الرضى لديه. وهذا يتمّ ويتحقّق -بطبيعة الحال- بناء على معايير مضبوطة ومدقّقة.
وبما أنّ مفهوم الجودة اقترن في الأدبيات والدراسات الحديثة برؤيا جديدة مقرونة بأهداف ترتبط بالمنتج أو الخدمة المقدّمة، فقد تطرّقت معظم التعاريف لمفهوم الجـودة من حيث قياس أو تمحيص التقديرات التصحيحية أو القيمية للمستفيدين لمـدى صـلاحية وفاعلية المنتج أو الخدمة المقدّمة.
ثانيا- الجودة في مجال التربية والتعليم
يسعى قطاع التربية والتعليم -كغيره من المؤسسات- إلى تحسين وتجويد الخدمة التي يقدمها، و التي هي عبارة عن حزمة من المعارف والمهارات التي يسعى القائمون على عملية الإرسال إلى تمكين التلاميذ والطلبة والأطر التربوية من الاستفادة المتدرجة منها، و هو ما يستلزم الخضوع إلى معايير مضبوطة ومحددة زمنيا ومكانيا.
وعليه فقد استرعت هذه الاستراتيجية الجديدة التي تبنتها الجهات المسؤولة عن تطوير خدمات التعليم، انتباه العديد من المهتمين والباحثين الذين انبروا لتحديد، وبالأحرى التقعيد لمفهوم الجودة في التعليم، وهي دراسات حاولت كل واحدة النظر إليها وفق رؤية محدّدة ومضبوطة.
وعليه، فالجودة في التعليم تقوم على تجاوز المعطى القائم إلى محاولة تبنّي رؤية جديدة تقوم على الإحكام والتميّز، وهي مرّكبة من مجموعة من العمليات تهدف إلى تقديم خدمات متعدّدة إلى كل المستفيدين من خدمات هذا القطاع، وتحقيق مبدأ الإشباع والرضى المعرفي.
وقد عرفها مشروع القانون ـ الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والبحث العلمي بالمغرب بـ “تمكين المتعلم من تحقيق كامل إمكانياته عبر أفضل تَمَلّكٍ للكفايات المعرفية والتواصلية والعملية والعاطفية والوجدانية والإبداعية”.
وهي كذلك “تحدّد أسلوباً في الممارسة الإدارية مبني على مجموعة من المبادئ التي ترمي إلى تقديم خدمات تعليمية متميزة للمستفيدين الداخليين والخارجيين، من خلال إيجاد بيئة ثقافية تنظيمية في المؤسسات التعليمية تعمل على تحديد أهداف المؤسسات التعليمية ورسالتها، وتعتمد بشكل أساسي على تلبية احتياجات المستفيدين من الخدمات التعليمية، والاهتمام بطريقة تأدية العمل والوصول إلى التحسين المستمر لعمليات التعليم”.