اخبار التعليم

بيداغوجيا الإبداع و تعليم الحياة في منهاج العربية

أطوار المداخلة:

  • التعليم والتعلّم فعلان بدْعان منقطعا النّظير: مدخل إلى توظيف مجلوبات التربية العصبية في تعليم العربيّة وتعلّمها.
  • التربية الإبداعية وبيداغوجيا الإبداع: أسس ومحدّدات.
  • تعليم العربيّة وتعلّمها بمنهاج إبداعيّ: سبل ومقترحات.

1- التّعلّم والتّعليم فعلان بِدْعان منقطعا النّظير: مدخل إلى توظيف مجلوبات التربية العصبية في تعليم العربيّة وتعلّمها

من الوهم الاعتقاد أنّ التربية والتّعليم والتعلّم أفعال إنسانيّة بعيدة الصّلة عن مفاهيم الإبداع والابتداع والإبداعيّة، فكلّ تعلّم هو في جوهره وأصله فعل إبداعيّ ينجم عن  مثول “مسار ذهنيّ متكامل يجري في دماغ المتعلّم طفلا أكان أم كهلا، يكون موجّها آليّا نحو تحصيل مكتسب معرفيّ أو مهاريّ جديد ينضاف إلى مخزون المكتسبات والمعارف والخبرات والمهارات السّابقة، والتعلّم لا يكون إلاّ بعد حدوث تغييرات وجدانية عرفانيّة سلوكيّة تتبدّل بموجبها بنية ذلك الّدماغ المتعلّم بمفعول التكيّف والمواءمة مع المعلومة الجديدة القادمة من المحيط” [1].

فالذّات المتعلّمة في أغلب ما رسخ واستقرّ من طروح ورؤى بيداغوجيّة وتعليميّة حديثة هي بالضرورة “ذات فاعلة منشئة” حينما تتعلّم بمفردها أو مستطيعة بغيرها أو متفاعلة مع ذوات أخرى من أترابها.

وعلى هذا فإنّ التعلّم لا يكون إلاّ منذورا لإنشاء الذّات المتعلّمة، تبتدع تجربة تعلّمها على نحو مختلف لا يشبه غيره من التّجارب التعلّميّة الأخرى، على خلاف ما نظنّه من كونها محكومة بالتّشابه المعمّم والتضارع المنمّط، وإن كنّا نعلّم مجموعة أفراد نفس الشيء، ونبلّغهم ذات المحتويات والمقرّرات المدرّسة وفق برمجة ما وأهداف محدّدة مسبقا.

يبقى التعلّم من هذا المنظور العرفانيّ العصبيّ إنشاء وابتداعا وإبداعا وهو في مطلق الأحوال بِدْع منشئه (أي المتعلّم) ومبتدَع من تسبّب في اختلاق مساراته وتهيئة أسباب تحصيله بتدبير بيداغوجيّ مسبق (أي المدرّس). والأمر لا ينافر المدلول المعجميّ المستكنّ في الفعل بَدَع من اللّغة العربيّة فـ “بدَع الشيء يبدَعه بدْعا وابتدعه: أنشأه وبدأه والبديع والبِدْع الشيء الذي يكون أوّلا وفلان بِدْع في هذا الأمر أي أوّل لم يسبقه أحد والمبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إيّاه وفي القرآن قوله تعالى: “قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ” أي ما كنت أوّل من أرسل وقد أرسل قبلي رسل كثير “[2]

ولا يبدو الأمر منافيا لما نجده أيضا في مشترك اللفظ الأعجمي Créer/Create الدّال على معنى الخلق والإنشاء أي منح الوجود للشيء بعد عدم.

ينطوي كلّ تعلّم إذن على فرادة تجربة يخوضها الفرد ليقطع أطوار حياته ومسار تكوينه وهو مع كلّ تجربة يضيف شيئا جديدا مبتدعا لذاته ولأسلوب عمله مهارات وكفايات قد توظّف نفس المحتويات لكن بطرائق وأساليب لا تضاهي طرائق غيره وأساليبه.

تلك حقيقة من الحقائق المثبتة في نظريات التربية التي توصّلت إليها مباحث التربية العصبيّة  (La neuroéducation) وموضوعها “دور الدّماغ وخصائصه ووظائفه وآليات اشتغاله في التعلّم”  وعلوم الأعصاب العرفانية (Les neurosciences cognitives) وهي مجموعة من التخصصات العلمية المعرفية مشغلها الأساسي “فهم آليات التّفكير البشري والحيواني والاصطناعي أي كلّ نظام عرفاني من التّفكير ذي الطّابع المركّب من شأنه أن يعالج معلومة مّا معالجة تفضي إلى اكتساب المعارف والاحتفاظ بها وبثّها من إدراك وفهم واستدلال وقراءة وحساب ..)”

ويقصد بـ”العرفان”(la cognition) “الوظيفة البيولوجية للدماغ التي تؤدّي إلى إنتاج المعرفة واستخدامها وتوظيفها”[3]

مكوّنات الدّماغ البشري المتعلّم le cerveau apprenant 

بيداغوجيا الإبداع

بيداغوجيا الإبداع

خصائص الدّماغ البشري

أكثر الأعضاء البشرية حماية يقع داخل جمجمة عظمية يسبح داخل سائل دماغي شوكيCSF

– كتلة من الدهون والبروتانيات تزن حوالي 1,4 كغ.

  • يتألف من 100 مليار خلية دماغية تؤلّف 100.000 مليار من الملاحمات العصبية المترابطة شبكيا Synapse تتولى التقاط المعلومات الحسية من الخارج والربط بينها وتنظيمها وتنسيقها ثم تخزينها فاستعادتها وقت الحاجة.
  • يستهلك الدّماغ قرابة 15% من الدم المتدفق داخل أعضاء الجسم و20 % من الأكسجين وهو يتغذّى أساسا من مادّة الجلوكوز.
  • ينقسم إلى ثلاثة أدمغة أمامي ومتوسطي وخلفي والخلفي فيه هو الذي يحوي المخّ الذي ينقسم إلى شقين هما منطقة “فيرنك” مستودع كلّ ما هو خيالي، حدسي، بصريّ، تعبيريّ وجدانيّ، والشق الأيسر المسمّى منطقة بروكا” موضع التفكير اللغوي والعقلاني المنطقيّ.

يتفرع كل نص إلى أربعة فصوص هي: الفص الجبهي والصدغي والجداري والقفوي تشتغل جميعا بشكل ترابطي تكاملي.

مميزات الدماغ

  • الليونة وقابلية التطوير والتطوّر.
  • التجدّد نتيجة التغييرات المستمرّة التي تحدث على مستويات مختلفة في الجهاز العصبيّ: التراكيب الجزئيّة، تغييرات المظهر الوراثي والسلوك.
  • اللّدونة أي قدرة الجهاز العصبيّ على تغيير تركيبه وعمله طوال حياته
  • الفرادة لا يشبه أيّ دماغ بشري دماغا آخر.

لقد بدأت تلكم المستجدّات في حقول المعرفة بالدّماغ المتعلّم وطرق بناء معارفه وتكوينها تلقي بظلالها على مشاغل أهل التربية والتّعليم منذ ما يقارب 50 سنة ليكون معها ظهور مبحث “البيداغوجيا العصبية”(La neuropédagogie) التي لا شكّ أنّها استفادت من مفهوم “الموقف العرفانيّ“(L’attitude cognitive) القائم أساسا على اعتبار السّمات الاختلافيّة في الأدمغة البشريّة ومدى تنوّع طرق اشتغالها في تطوّرها ونمائها من مرحلة عمريّة إلى أخرى.

كلّ ذلك يجيز التحدّث عن “مرونة دماغية” تتشكل جوهريا وداخليا عبر مراحل نموّ الطّفل المتعلّم (la (La plasticité intrinsèque) وخارجيا (La plasticité extrinsèque) بتأثير من عوامل التّعليم والتعلّم وطرائق التّدريس.

فمع كلّ وضعيّة من وضعيّات التعلّم تبنى معارف وتنزاح أخرى حسب ما يقع في الذّهن من مسارات “الملاحمة” العصبية (La connectivité neuronale)بين الخلايا الدّماغيّة النشطة والمتلفة، خاضع كلّها إلى مجمل مؤثّرات مباشرة وأخرى غير مباشرة من أبرزها ميول الفرد واستعداداته الماقبليّة، تتفاعل مع اختلاف طرائق التدريس ومناخات التعلّم وتجاربها القصيرة أو المطوّلة.[4]

وسيرورات الملاحمة التي مردّها الليونة الشبكية للدّماغ (la plasticité synaptique) والتي تعدّ مسؤولة عن حصول المعرفة والتعلّم نوعان:

  • سيرورات “أمكنة” على مدى طويل (Potentialisation à long terme LTP)
  • سيرورات “خفض على المدى القصير(Dépression à court terme LTD)

وهي تتظافر بدورها مع خاصيّة “الملاحمة الوظيفيّة” للدّماغ البشري بوصفها حصيلة أعمال منظّمة تضطلع بها الذّاكرتان الاشتغالية وبعيدة المدى مع اتخاذ القرار والتأمّل الوجداني والتجريد الرّمزي والتعالق التصوري والمعاودة والتكرار الحركي والمفاهيمي…

ولقد أقرّ علماء التربية العصبيّة على هذا الأساس أن لا دماغ بشريّ يشبه دماغا آخر مهما وفّرنا نفس الإمكانات والموارد والمحتويات ومهما تماثلت ظروف التعلّم، لأنّ كلّ متعلّم يوظّف منواله التعليميّ الخاصّ ويتّخذ “موقفا عرفانيّا” مختلفا يتصرّف وفقه عند سعيه إلى حلّ المشكلات واتّخاذ القرارات وتتدخّل خلاله أساليبه الخاصّة ومجموع خبراته وضروب ذكائه وميوله لتفرد استراتيجيات تعلّمه.

فلا يتماثل متعلّمان أبدا في طبيعة تجربة التعلّم ولا في بنية الدّماغ وتركيبته وسعة الذّاكرة ومخزون مكتسباتها المحصّلة عبر مسار التعلّم المقطوع طوال مراحل حياة بعينها، حتّى وإن كان المتعلّمان ندّين يدرسان في نفس المستوى الدراسي والفصل أو لهما نفس السّمات النّفسيّة الاجتماعيّة والانتماء الطّبقيّ أو الثّقافيّ.

يوكل التعلّم في صميم معناه إلى ما يوظّفه المتعلّم من منظومة أساليب تتمثّل حسب مسرد اكتشافها وتأصيلها في مباحث التربية والتعليم والبيداغوجيا كالآتي:

1 الأسلوب التركيزي المسحي برونار Bruner 1965
2 الأسلوب الاندفاعي  الانعكاسي كاغنJ.kagan -Pearson وبيرسن 1960
3 الأسلوب الشمولي باسك وسكوتPask –Skaut 1976
4 الأسلوب الحدسي التقبلي المعياري المنهجي كين وكاني KEEN et Mc KENNEY 1976
5 الأسلوب التابع أو المستقل عن الحقل ويتكين A. WITKIN 1978
6 الأسلوب السمعي بصري دولاغرندوري A. de la     GARANDERIE 1980
7 الأسلوب التنويعي التكاملي المواءمي التمثّلي كولب Kolb 1985
8 أسلوب يعتمد أكثر الدّماغ الأيسر أو الدّماغ الأيمن كارتي1986 B. McCARTHY

وكذا “لم تكن بيداغوجيا “ما بعد الحداثة”- حسب كلّ من “بيار بورتوا” و”هوقيت داسمات”- أبدا شأنا مريحا، إذ عليها أن تشتغل باستمرار على التّناقض بين “التألية” (L’instrumentation) اللاّزمة أي المنهجيّة الموضوعيّة والمساءلة الشخصيّة والارتجالية (البيداغوجيا المابينذاتية )”. [5]

توسم الظّاهرة البيداغوجيّة وفق هذا التصوّر بأقصى حدود الاختلاف والتّغاير وعدم اليقين واللّاتوّقع رغم ما توحي به في ظاهرها من صبغة تقنيّة مقنّنة باعتبارها علما أو مجموعة من الكفاءات والمهارات التي تميّز صنعة كلّ مشتغل بالتدريس.

فكما أنّ البيداغوجيا أو “علم تقنيات التدريس وسبل تطويرها” تطرح نفسها موضوع درس وعقلنة وتحليل وتفسير وتأويل علوم التربية والتعليميات وسائر التخصّصات المهتّمة بالعمليّة التعليميّة التعلّميّة، فإنّها في عمقها “البراكسيسي” العمليّ تجوز لدارسها والمنشغل بها أن يمنحها تعريفا يرى فيها: “علم هندسة الممكن والمتاح من أجل بلوغ أهداف تعليميّة تتّسم بأقصى حدود الوجاهة والنّجاعة والإنصاف”.

والتدريس أو التعليم بالموازاة لم يعد يكتفى فيه بالتعريفات التقليدية بما هو “عملية تواصل تفضي إلى بناء المعرفة”[6] ” وإنما صار من ضروب “التصرّف في بناء المعرفة و”إدارة للتعلّمات وعملية التعلّم برمّتها: أي إدارة الفصل وهندسة الوضعيات وتنظيم التواصل وبناء التقويمات …”[7](“teaching is not telling”)

أليس هذا ما يجعل من البيداغوجيا منشودا نظريا مفارقا مقيّدا بالتقعيد والتّنظير، أي بالتشابه والتّنميط والتصنيف، فنقول بيداغوجيا كذا وكذا (البيداغوجيا التقليدية، الحديثة، بيداغوجيا النّشاط، البيداغوجيا الفارقية، التفريقيّة، بيداغوجيا المشروع، اللعب…)؟

وعلى خلافها تحافظ الممارسات البيداغوجية على تنوّعها وفرادتها بوصفها أساليب فردية ونماذج اجتماعية موروثة حينما تتطبّع بداهة بشخصيّة المدرّس ومواقفه ومعارفه وخبراته وأساليبه في تطبيق ذلك النّظري المقنّن لتخلّف آثارا منجزة لا تشاكل غيرها ولا مثيل لها في السّابق ولا في ما سيأتي بعدها من الأفعال، مهما كان ذلك النّمط التّعليميّ وذلك المنوال البيداغوجيّ محافظا أو محاكيا لأنموذج بعينه من نماذج التّدريس وطرائقه.

خلاصة القول التعلّم فعل بِدْع منقطع النّظير من إنجاز المتعلّم ذاته لا يضاهيه في ذلك غيره لما يتّصف به الدّماغ البشريّ من خصائص اللّيونة واللّدونة والفرادة، والتّعليم على نفس القدر، فعل موصول بالبيداغوجيا أو فنّ التّدريس لا يقلّ ابتداعا وخلقا وابتكارا عنه، لأنّه نتاج أسلوب مدرّس بعينه في زمان ومكان محدّدين ومع جمهور معيّن من المتعلّمين لهم درجات متباينة من الصعوبات  تميّزهم أساليبهم الخاّصة وطبيعة تفاعلاتهم مع المحتويات والمعارف المدرّسة وفي ما بينهم من سياق تعليميّ إلى آخر وإن في نطاق المنوال التدريسيّ الواحد والمحتوى المقرّر المضبوط والهدف المنتقى.

لكن هل تغدو حسب هذا التصوّر كلّ أفعالنا التعليميّة وما ينجرّ عنها من آثار تعلّم من ضروب “البيداغوجيا الإبداعيّة” أو “بيداغوجيا الإبداع” تعريبا للتّسمية الفرنسية  La pédagogie créative/ la pédagogie de la créativité؟

ألا يجدر بنا تأصيل المسألة على ركائز أمتن نتجاوز بها فكرة المعطى الجاهز وتحصيل الحاصل إلى رؤية قاصدة مقصديّة تتحرّى سبل ابتداع تجارب التّعليم والتعلّم وتستشرف ملامح مشروع متكامل من مشاريع تجديد تدريس العربيّة مستقبلا من الابتدائيّ إلى الثّانوي مادة إبداع وخلق أي مادة حياة للمدرسة والمدرسة في الحياة؟

كيف يصحّ القول بإبداعيّة تعليم العربيّة وتعلّمها مع ما بتنا نلاحظه منذ سنوات من جدب في محتويات البرامج وعقم في طرائق التدريس تقابلهما من جهة المتعلّم عظمة نفور وتزايد كمون وكراهة إقبال على تعلّم العربيّة؟

ألا يجب أن نتجاوز الحدسيّ والبديهيّ في تعليم العربيّة وتعلّمها لنتعامل مع الإبداع على أنّه ممارسة مهنيّة تتطلّب أوّلا درجات أعمق من الوعي البيداغوجيّ بالواجب تدريسه وكيفيات هندسته وتصميمه تطلّبها ثانيّا قدرات مخصوصة على عقلنة فعل التدريس نفسه في علاقة بالذّوات المتعلّمة ذات السّمات الفرديّة المتنوّعة في أساليب أدائها وضروب ذكائها؟

ما السّبيل إلى تعقّل بيداغوجيا الإبداع ذاتها في مناهج العربيّة ودروسها بما يضع لممارسات التدريس شروطا ومحدّدات ويضيف إلى عتاد التدريس موارد ووسائل وإمكانات؟

يبدو البون شاسعا بين الإبداع كما نحدس بوجوده كلّما حصّل إكساب لمعرفة جديدة أو اكتساب لها وبين ممارسة التعليم الإبداعيّ فعلا واعيا مسنودا بهندسة المناهج الإبداعيّة وبمفاهيم الممارسات التأمّليّة في التدريس والتّقويم ومفاهيم “الميتاعرفان” (la méta cognition) لدى المتعلّم وهو يمارس معرفته ويسهم في إنتاجها وإعادة إنتاجها.

قد لا يسعنا في هذا السياق سوى أن نسعى إلى تأصيل المفهوم واستنباته تأسيسا وتنظيرا في تعليم العربيّة وتعلّمها ثم نتكلّف إلى تقديم مقترحات إجرائية تستشرف سبل تطوير منهاج العربيّة القادم متعلّقا بمختلف المراحل التعليميّة.

وهو ما يقتضي قبل كلّ شيء أن نوضح المقصود بالمقاربة الإبداعيّة في التّعليم والتعلّم لنوثّق الصلة بينها وبين بيداغوجيا الإبداع في مادّة العربيّة من جهة هندسة برامجها التي يفترض أن تحمل تسمية “منهاج” (curriculum)لما في الرؤية المنهاجية و”المقاربة بالمنهاج”(L’approche curriculaire) من شديد تناغم وانسجام مع محدّدات التدريس بالإبداع أو التدريس الإبداعيّ الذي يشترط أقصى حدود المنظومية والشموليّة من جهة هندسة التعلّمات في درس العربية على غرار بقيّة الموادّ ، مثلما يستدعي قدرات بيداغوجيّة أكثر وجاهة ورشدا عند تصميم الدّروس ومقاطع التعلّم يتجلّى فيها الإبداع منذ اختيار الأهداف ويترسّخ خاصّة أثناء “سنيرة”[8] الدّرس و مقطعة مفاصله الكبرى والصّغرى وتوزيع مراحله وتدريج تمشّياته وتأثيث مناشطه بالموارد والوسائل.

ولا ننسى طرائق التدريس وتقنيات التنشيط ومقاربات التعليم وقد أضحت منوالا تكامليّا هو “مقاربة المقاربات” و”بيداغوجيا التّكامل” (la pédagogie de la convergence) التي لم تعد تقبل التحنيط والتّشابه كما لم تعد تتناسب والتجزيء المخلّ والانفراط المهلهل بين مقاطع التعلّم ومفاصله الكبرى والصّغرى، وينافيها من جهة أخرى غياب الإدماج الوظيفيّ بين المعارف الضرورية في دروس العربيّة وبين مهارات التلقيّ والإنتاج من وضعية تعليميّة إلى أخرى وحسب المادّة المدرّسة ونوعيّة صعوباتها المعرفية والمنهجيّة (تختلف هندسة درس النّحو والصّرف مثلا عن درس القراءة عن درس الكتابة والتواصل لكن كلّ فرع من تلك الفروع يستدعي بالضرورة بقيّة التعلّمات ويوظّفها على نحو منظوميّ تكامليّ).

ولا ننسى أنّ البيداغوجيا النّشطة تقيم سدى مناشطها على توزيع الأدوار وتقاسم الأعباء وتحمّل كلّ فرد أو زوج أو فريق من المتعلّمين مسؤوليّة إنجاز المهامّ باستقلالية وانخراط والتزام وتشاركية في حلّ المشكلات وهو ما ييسّر اكتساب مهارات التّفكير المنهجي والنّقدي والتقّني الإنتاجيّ وهي جميعها حزمة مّما بات يسمّى “كفايات العيش” أو “مهارات الحياة” والنشاط فيها أسس لتعلّم مهاريّ يشحذ مهارات التفكير والتعبير والعمل كما ينمي مهارات العيش مع الآخر في نطاق مأمول جديد من المعارف هي مزيج من معارف الكينونة مع معارف الصيرورة: أي كيف أكون مع ذاتي وفي ذاتي ومع الآخر وفي الزمان والمكان؟ وكيف أصير مستقبلا مواطنا وإنسانا ناجحا ناجعا مريدا فاعلا مسهما في تأكيد مخرجات أجدى وأجود وأنجع لمدرسة الحياة ومنها العربيّة لغة حياة تتطلب أن نحيا بها داخل الفصول لنحيا بها خارجا؟

ندعى من ثمّة إلى الإجابة عن السؤال القاطب في هذه المقالة:

ما الإبداع ترجمة للفظ la créativité؟ وماذا تعني البيداغوجيا الإبداعية وفيما تختلف عن بقيّة البيداغوجيات والمقاربات؟

2- التربية الإبداعيّة وبيداغوجيا الإبداع أسس ومحدّدات

لم يخل متن من متون الآداب والفلسفات والفنون من تفكير في الإبداع وكلّ محاولة إلى سلك مسلك البحث في الإبداع توصلنا إلى ما به كان العقل البشريّ مبدعا سواء في تساؤله وتسآله عن مآتي الإبداع ومساءلته مظاهره، أم في إنتاجه الظاهرة الإبداعية بتجليّاتها الكثيفة المتنوّعة الممتدّة في الزّمان والمكان.   ومن تعريفاته ما نجده عند “شتاين” Stein من كونه يمثّل ” كلّ سيرورة ينتجها فرد أو جماعة تترك أثرا ذاتيّا يحظى بالقبول من المجموعة الاجتماعية في زمان ومكان محدّدين لما تراه تلك المجموعة في ذلك الأثر من صفات النّافع الجميل المرضي”، ويعرّفه “بيارون”(Pieron) بكونه”وظيفة الابتكار التي ينهض بها الخيال الخلاّق حتّى تغدو سمة نوعيّة من سمات الذّكاء”[9] ومن عوامله حسب “جون كو” (J.Caux):

  • القدرة على تمثّل المشكلات.
  • قابليّة الإنتاج والانخراط الواعي في مسارات إنتاجيّة.
  • مرونة تحويل الوضعيات إلى مشكلات تقبل الطرح والافتراض والاستنتاج.
  • الأصالة والجدّة.
  • القدرة على إعادة هيكلة الوضعيات بمنطق شمولي اختزالي أو تحليلي أو تأويلي.

وقد نعتقد جزافا أنّ وظائف الإبداع محصورة في الفصّ الدّماغيّ الأيمن أو ما يعرف بمنطقة “فيرنك” مستودع كلّ ما هو خيالي، حدسي، بصريّ، تعبيريّ وجدانيّ، على خلاف الفصّ الأيسر المسمّى منطقة “بروكا” موضع التفكير اللغوي والعقلاني المنطقيّ. غير أنّ الإبداع من الوجهة التعليميّة البيداغوجيّة لا يعتمد على جهة دون أخرى ولا يشتغل بموجبه فصّ دماغي بمعزل عن تفاعله مع الفصّ المقابل (“نظرية الأدمغة الأربعة” .[10] la théorie des quatre cerveaux

فالإبداع في التعليم والتعلّم لا يكون إلاّ منظوميا تكامليّا ترابطيّا يبني علاقات وجيهة بين مكونات العمليّة التعليميّة التعلّمية وتدرّج جهازها التعليميّ من ناحية (التهيئة الحافزة، استثارة التمثلات والإشكالات، بناء المفاهيم والمعارف، هيكلة التعلم والتبصّر بمساراته ونتائجه وتقويمها، الاستثمار والنّقل) وبين سيرورات الحفظ والتذكّر و الانتباه والإدراك والفهم والاستدلال الموصولة بوظائف الأجهزة الوجدانية العرفانيّة للدّماغ البشري يفترض أن يعمل التعليم الإبداعي على حشد طاقاتها وتركيز مسارات انخراطها النّشط في التفكير وحلّ المشكلات مع تحفيز كلّ الكوامن الوجدانيّة واستنفار القدرات الذهنيّة وشحذ المهارات العمليّة بشكل تكامليّ تفاعليّ أو تكميليّ في آن:

بيداغوجيا الإبداع

وفي ذات السياق وجب نفي كون الإبداع من علامات الذّكاء الخارق ومن ملامح الأشخاص الموهوبين أو ذوي النّبوغ، فلا علاقة حتميّة تشج الإبداع بالموهبة وبارتفاع مؤشرات قياس الذّكاء مطلقا، ولكنه موصول بأكثر من نوع من أنواع الذّكاء تتظافر وتتراشح في جوانبها الوجدانية والتصوّريّة الإدراكيّة والذهنية العرفانيّة والتواصليّة اللغوية والتفاعلية العملية لتستقيم تجربة تعليميّة تنضج قدرات الذّهن وتستثمر الاستعدادات الماقبلية للفرد وتستنفر ما اكتنزه بالدربة والمران وتكرار التجربة وتعدّد طرق الاكتساب من قابليّة الانخراط الواعي في نسق ابتكاريّ تجديديّ يجيب عن سؤال ويسعى إلى حلّ مشكلة ليفضي إلى تحقيق إنتاج ما.

لم يعد الذّكاء معطى فطريا جاهزا يولد به الفرد ويستمرّ معه مدى الحياة وإنّما هو حصيلة دربة وتمرن وتعلّم وتعليم إستراتيجيين يوافقان المطلوب فعله أثناء التعلّم لإنجاح أهدافه ومقاصده وتحصيل كفاءاته المطلوبة. و محيط التعلّم وممارساته التدريسية ومؤثرات السياق ونوعية الأجهزة والمناويل والمقاربات والوسائل هي التي تطوّع هذه القدرات الفطرية الذّكائيّة وتنميها وتثريها لتهبها خاصيات “المرونة الشبكية” و”الوظيفية” اللتين بهما يتطور الدماغ المتعلّم وينضج ليكتسب” إمكانه العرفانيّ”[11] La potentialité cognitive.

ولا أحوج للمتعلّم والمدرّس على حدّ السواء من توظيف معرفتهما بضروب الذكاء المتعدّد التي تبينها صنافة هوارد غردنر الشهيرة:

بيداغوجيا الإبداع

لا شيء يمنع من اعتبار الإبداع في التعليم والتعلّم إجابة متواصلة عن سؤال المعنى: “المعنى من التعلّم”(Le sens de l’apprentissage)، وقد رأى فيه ميشال دوفلي”(Michel Develay) ” دلالة ينشئها المتعلّم ذاته وفق رؤيته إلى المدرسة وعلاقته بما يدرس والغاية من ذلك”[12]  يستخلص بواسطتها ومن خلالها قيمة وجدانية اجتماعية ثقافية وجوديّة برهانها “الجدوى الاجتماعيّة”(l’utilité sociale) وشرط إمكان حصولها مدى “تقدير تلك الذّات المتعلّمة لذاتها” وارتقاء مستوى وعيها بشبكة مهامّها وأدوارها.

فالتعلّم على نحو إبداعي يعدّ في جوهره فعلا اجتماعيا ثقافيا لا يخلو من أبعاد “أنطولوجيّة” موصولة بالمعنى من الوجود التعليميّ ذاته وتجربة التمدرس مطلقا – وجها من وجوه بـ“بيداغوجيا الإرادة”  “[13] La pédagogie de la volonté أي أن نحيا ونحن نتعلّم على نحو مريد.

ولا قيمة لفعل تعلّم ما لم تكن الذّات المنشئة لتعلّمها مريدة فاعلة نشطة مستقلّة في قراراتها قادرة على تحمّل نتائج تجربتها، يفضي تعلّمها إلى موقف إبداعيّ، أي إلى مشاركة واعية وانخراط مسؤول في مسارات إنتاج المعنى من التعلّم وإعادة إنتاجه.

والإبداع من منظور علم النّفس مرتبط بفكرة “تنامي الوعي” و نموّ الشخصيّة (Rogers,Maslow) وما في ذلك من تعبير عن الحاجات والأهواء والمطامح والنزعة الإنسانية نحو التخفّف من مشاعر الخوف والعجز والرّهبة والكمون مقابل التطلّق وتجربة التوق إلى الاستكشاف والبحث والتجريب والمجازاة والسموّ و التحرّر وإثبات المقدرة على نقد الذّات وعلى التحكّم في الخيالات وحسن انتقاء الوسيلة والأداة وتجاوز محدودية المعرفة التقنية “(Gabrièle Séailles)..

أمّا من منظور علم الاجتماع يجسّد الإبداع فكرة “النفع” وتلبية حاجات المجتمع والسياق [14] Stein ,Sillamy, Bouthoul ,Brunschvicg…).

وحينما نجمع بين المنظورين نجد في الإبداع “بعدا تكامليا شموليا يأتلف ما هو وجداني(affectif) موصول بالدّافعية والحاجة والقيمة والمعنى إلى جانب ما هو عرفاني(cognitif) يستجلب مخزون المعارف والمكتسبات ويشّغل أساليب معالجة المعلومات، مع ما هو عملي (conatif) متّصل بما يحدث المبدع من أثر داخل البيئة والسيّاق وذلك في إطار مقاربة تعدّدية متنوّعة [15] . multi variée.

لا يمكن حينئذ، بناء على كلّ ما سبق قوله قصر الإبداع على الأبعاد الموصولة بالفرد وسماته النفسية المعرفية الذهنيّة معزولة عن السيّاق والمحيط وعن تفاعله مع الآخر “ليظلّ الإبداع نتاجا اجتماعيّا بالأساس”[16] يشترط عددا من المهارات في التعلّم هي مهارات حياة وكفايات عيش قبل أن تكون معارف تعليميّة صرف من قبيل: المبادرة والانخراط والفكر التحليلي والنّقدي والتأليفي والاستقرائي الاستنباطي في مواجهة الوضعيات الطارئة وحلّ المشكلات وحسن إثبات القدرة على التعاطف والتعايش مع الآخرين والتواصل المجدي والتعاون والمشاركة والتذوّق…

ولا يخفى أيضا بمنطق اللزوم والاقتضاء ما للإبداع من شديد تعلّق بمعاني الإنتاج والإنتاجيّة لأنّنا نعدّ “الإبداع مظهرا من أقوى مظاهر قدرة الفرد على إنجاز نشاط منتج وتحقيق إنتاج “[17]، وإن سلّمنا بكونه شديد الاتصال بمفاهيم الذّكاء فهو أكثر تجسيدا لمفهوم “الذّكاء النّاجح”[18] ذكاء اجتماعيا ثقافيا إنتاجيا قبل أن يكون شيئا آخر حدسيا مفارقا غير ملموس. فهو ذكاء عمليّ اجتماعيّ ّ يتجاوز المعنى التقليدي للتأقلم مع البيئة إلى تغيير “أشكال ملاءمة الذّات الذكيّة للبيئة”، أي يسهم التعلّم الجديد برؤية إبداعيّة عمليّة موصولة إلى حدّ بعيد بالإنتاج في تغيير أنظمة التأقلم مع البيئة بتوظيف المعرفة الجديدة لحلّ مشكلات تلك البيئة وتطوير شروط جودة الحياة.

لقد اتّجهت الرؤى التربويّة الحديثة إلى تحويل وجهة التعليم الإبداعيّ و بيداغوجيا الإبداع من مجرّد إثبات موهبة وتفتيق قريحة إلى المراهنة على” مشروع المدرسة مشروع استثمار في المعرفة ومشروع إدماج للفرد المتعلّم في مجتمعه وتهيئة تعتبر الأبعاد الثقافية الحضارية والمواطنية وحاجات سوق الشغل والتشغيلية.[19]

لا قيمة إذن، لتعليم إبداعي لا نجد فيه آثار تعليم ناجح من أجل إنجاح الحياة، مّما قد يقتضي بداهة إدراج مفاهيم “التربية على …” ). (Les éducations à، أي التربية على الصحة والبيئة ووسائل الإعلام والمواطنة وهي تربيات تدمج بالضرورة “مهارات الحياة” (Les compétences de vie)  وتعتبرها ذات أولويّة قصوى قبل المعارف والمحتويات الصوريّة الصرفة، مدرسة الحياة وتعليم الإبداع قد لا يعترفان بالمعرفة الصوريّة المجرّدة ما لم تنغرس في واقعها وتخلّف آثار “نقليّتها”(la transférabilité) التي يجب أن تكون إيجابية وتبصّريّة في آن(réflexibilité).

والإبداع لا يكون طفرة أو فجاءة بل هو مسار ذو نسقيّة على غاية من الهيكلة والانتظام (Henri Poincaré) يتوافق كليا مع ما يبتنيه المدرّس والمشتغل بالبيداغوجيا من تصميمات وهندسة تعليميّة بيداغوجية تفضي إلى تأسيس أجهزة وسيناريوهات ممكنة تعيدنا إلى مفهوم “هندسة الممكن والمتاح بوجاهة وواقعيّة ومعقولية وإنصاف.

كلّ هندسة تعليميّة بيداغوجيّة موصولة بالإبداع هي هندسة تمنح التعلّم معنى أن يكون متجذّرا في سياقه ومحيطه وواقعه شديد الاتصال بالحياة فلا قيمة للتعليم والتعلّم دون إحياء دائم لما يجعل المتعلّم حيّا شعوريا وعقليا وفي سلوكه وقناعاته وقيمه ومنظومة أفعاله وآثار تعلّمه.

3- تعليم العربيّة وتعلّمها بمنهاج إبداعيّ سبل ومقترحات

إنّ الإبداع في دلالاته البيداغوجيّة التي تتقصّدها هذه المداخلة ليس بذخا ولا بهرجة ولا ترفا تعليميّا ولا يعني كذلك مجرّد توظيف للفنون والبراعات والوسائل الحديثة من عتاد رقميّ ووسائط وما إلى ذلك، وإنّما على العكس من ذلك يذهب أرنو ستارن (Stern) منذ سبعينات القرن الماضي إلى نفي المنزع الفنيّ عن التّعليم الإبداعيّ والتّربية الإبداعيّة بعامّة ليدعو إلى اعتبار “الطفّل على طبيعته و في جوهره الحقيقيّ داخل محيطه الاجتماعي الثقافيّ الأصيل”[20] فـ“التربية الإبداعية هي تعبير الطّفل المتعلّم بحريّة عن ذاته وهو يتعلّم”[21] دون التغاضي عن سلامة هذا التعبير من النّواحي التّواصليّة القيميّة المعرفيّة(Madeline Gautier 1991).

من ثمّة كان لزاما على مناهج التربية الإبداعية ومنها مناهج العربيّة أن تؤسّس أجهزة بيداغوجيّة تتوفّر على قدر أعلى من المنظومية والاتساق والانسجام والوجاهة والتدرّج والتّعالق الوظيفيّ بين المكونات وبينها وبين متطلّبات السياق وحاجات المدرسة من تعليم هذه اللغة الوطنيّة الأولى لغة معرفة وحياة في آن واحد.

تدعى مناهج العربية مستقبلا إلى موافقة منوال التعلّم الإبداعي منوالا تعليميّا تقويميا تكوينيّا متكاملا يقوم على المقاربة بـ “المنهاج” في تجاوزها محدودية المقاربة التقليديّة بالبرنامج والبرامج التعليمية (Les programmes d’étude) التي لم تتجاوز مفاهيم المبرمج و”المقرّر(le cursus) التي من سماتها المحتويات المفكّكة والتمشيات والتوجيهات المنمّطة المتشابهة وهي من أبرز عوامل تراجع قيمة العربية ومستوى تدريسها وتعلّمها.

فالمنهاج:” مخطّط عمل يجسّد إطارا عامّا ينظّم العمليّة التربويّة التعليميّة وينتظم داخله  مجموعة مترابطة من العناصر المهيكلة، تمكّن منظومة تربويّة مّا من الاشتغال وفق غايات وباختيار محدّد للمحتويات والأهداف والتوجّهات البيداغوجيّة الكبرى والتمشيّات التّعليميّة والمقاربات وأنماط التقييم ووسائل التعلّم وأنظمة التّوجيه بغية تكوين مسار التعلّم وتحقيق أهدافه الاستراتيجيّة الموصولة بانتظارات المجتمع من التربية”،[22] ومن خواصه ولوازمه أن يكون نابعا من رؤية شمولية نحو المدرسة ووظائف التربية والتّعليم لا تكتفي بالمبرمج المقرّر المتعالي عن الواقع وسياقاته ولا تقف عند المفتّت المجزّأ من المعرفة  ونواتجها ولكنّه منهاج يمضي نحو هدفه الأسمى أن يخلق أقصى حدود الانسجام بين المؤسسي الصوري والمدرّس وبين أفعال المتعلّم في فصله وبين ما يجري في دماغه وما يعتمل في وجدانه من آثار وجود “منهاج خفيّ” (Le curriculum caché) بما هو معكوس انتظارات وخلاصة محصلات وخازنة معارف ومعلومات ومحصلة صعوبات وتراكمات وما أشبه هذا بالكائن الحيّ نظاما مركّبا معقّدا من الأجهزة البيولوجية والعصبية والسلوكية والنفسية الاجتماعية لا يمكن فصل أحدها عن الآخر وعن الكلّ وإلاّ تعطّلت منظومة الحياة وكانت أشبه بالموت.

يغدو الإبداع بهذا التصوّر الجديد أسّا وركيزة هندسة منهاجية نستشرف سبل تأصيلها في تدريس العربيّة عبر جميع المراحل التعليميّة من الابتدائي حتّى الثانوي لتكون في اتّساق تامّ مع الإستراتيجيا الإصلاحية الرّاهنة وتوجهاتها الحديثة نحو “تربية الحياة” علّه يغدو ممكنا إصلاح هذه المادّة والارتقاء بمستوى تعليمها ونواتج تعلّمها حينما نرتكن في ذلك إلى عدد من المحدّدات الجديدة من أهمّها:

  • شموليّة تعليم العربيّة وتعلّمها وتعلّق مناهجها ومدوّنتها المدروسة من نصوص وآثار وظواهر أدبيّة واجتماعية ثقافية وتعبيرات رمزيّة بجميع الأبعاد الكامنة في شخصيّة الطّفل (الوجداني والعرفاني والعملي).
  • تعليم العربية على قاعدة الإنصاف والدّمج وعدم الإقصاء أو التمييز بين المتعلّمين على أساس الجنس واللون والمعتقد والمستوى الاجتماعي أو الاحتياجات الخصوصيّة واعتناق مبادئ تكافؤ الفرص في كلّ مسار تعليميّ تعلّميّ تبنيه المدرسة بوعي ومسؤولية (التربية للجميع) وهو ما يقتضي تغيير طرق تعليمها في المرحلة الابتدائية على وجه الخصوص بالتخلي عن التقعيد والتعليم الصّريح للقواعد في اتجاه التعلّم الاكتسابي الإبداعي بممارسة اللغة وتكثيف الاستعمال (التلقي والإصغاء، المسرح، المطالعة، الأناشيد، البراعات المحفّزة على التّعبير والإنتاج، القراءة اللعبية والرقمية، مشاريع الكتابة…) ويعني ذلك خاصة موضعة المكتسبات وإجراء “تقييم موضعي (l’évaluation du positionnement) قبل الارتقاء من درجة إلى أخرى ومن مرحلة الى مرحلة وعدم السماح باستمرار العجز والعسر والبطء والتأخر والفشل فالتعلّم المنهاجي في الابتدائي هو تعلّم يقوم على تركيز الضروري والحيويّ معا، ولا يصعد درجا في مراقي المعرفة والتحصيل والمتعلّم عاجز عن القراءة والكتابة والحساب بوصفها مهارات لا معارف مجردة أو كفايات مموّهة تختبر معرفيا ولا تدرك مهاريا في مقامات وسياقات بها نكتشف مدى قدرة ذلك المتعلم على مجابهة الوضعيات وحلّ المشكلات بمرونة واستقلالية.
  • تجاوز أحادية المادّة الواحدة واللغة الواحدة وانعزال التخصّص مقابل اعتماد مقاربة منهاجية مجالية متنافذة التخصّصات تسمح بالتّعابر والتّضايف والتفاعل بين المواد اللغوية والعلمية والاجتماعية الإنسانية والفنية. فعربية الإبداع التي نروم ليست بالضرورة عربيّة الآداب والشعر، بل وجب الارتقاء بها إلى ما يجعل منها عربيّة العلوم والتقنيات والمعارف الاتصالية والرقمية وخاصة معارف المجتمع والثقافة والحياة (تعدّد المعارف وتفجّر أنساقها وتقاطعها وتجاورها وتكاملها (Edgar Moran “الفكر المركّب”1990 /تربية المستقبل”1999).
  • مرونة السنيرة البيداغوجية الإبداعيّة لدرس العربية درسا تعدّديا متنوعا باذخ الإمكانات منفتحا على لعبة احتمالات تفرضها طبيعة المقاربة نفسها ودرجة الصعوبات فيستجيب وفقها لمتطلّبات الواقع وإكراهات السياق ويؤكّد فارقية المتعلّمين حسب تنوّع أساليب تعلّم ودرجات صعوباتهم وأنواعها وتفريقية التدريس بمنوال بيداغوجي تكاملي يقوم على “مقاربة المقاربات” شرط الوجاهة والاتساق.
  • درس يعتمد نظريّة الذّكاوات المتعدّدة يقع ثنيه تنويع المناويل والمقاربات وتكثيف الموارد والوسائل وتخير صنافة وجيهة متبدّلة من الأنشطة والتمارين والتطبيقات تعلي من شأن التّوظيف والاستعمال وتجلي قيمة “المعنى في التعلّم”.
  • التقويم بأنواعه تشخيصا وتكوينا وتعديلا يكون مدرجا في مسارات التعلّم ليشكّل جزءا لا يتجزّأ من بناء الدّروس وليس مسارا معزولا أو مفصولا يمليه التحصيل والجزاء.
  • تعلّم العربية المنتجة أو المسهمة في إنتاج المعارف والفنون والقيم المناسبة لمفهوم التربية الإيجابية الخادمة لتطلعات المجتمع ومشروعه المجتمعيّ الكبير. ومنها لا أهمية لدرس لا يخلص إلى نقل واستثمار.
  • الجهاز التعليميّ الإبداعيّ في درس العربية للإعدادي والثانوي وقوام هندسته كالآتي:
التهيئة الحافزة الأشكلة المفهمة الهيكلة (مع التبصّر) النّقل والتّقويم
استنفار الميول وضروب الذّكاء/ إبرام عقد التعلم على الحاجة والقيمة والمعنى.توظيف الفنون والخرائط.

والوسائط السمعية البصرية.

توظيف المجلوب التلمذي في التعلم عبر أسلوب الاستكشاف والاستقصاء / القسم المعكوس/ المدخل التاريخي والتداولي…

 

 

تشخيص المعارف السابقة/ جرد التمثلات والأحكام/ طرح الأسئلة.أشكلة المعارف. اللغوية والأدبية النصيّة/ إطلاق الفرضيات.

 

تحليل الإشكالات إلى مفاهيم /تمثيل المفاهيم بمحسوسات وسياقات حيّة ووضعيات دالة/تنافذ العربية مع بقية الموادّ والتخصّصات.تحويل المفاهيم إلى أدوات ومشاريع تعلم.  المقاربة المقطعيةبالإدماج.

بيداغوجيا النّشاط/ تعدد المناويل (المنطقي، الخطاطي، المهاري، اللعبي، التعاوني…)

تنويع مسارات التعلم. وتفريق المهام/ التعلّم الاستراتيجيّ/ التقويم الذّاتي والجماعيّ/ الميتاعرفان   والتبصّر مدرجين في التعلّم.

توظيف مهارات الحياة.

تعبئة الموارد والمعارف والكفاءات المختصة بالمادة وبمنافذة بقية التخصصات.

الاستثمار وتقويم مشاريع التّعلّم./ نقل الآثار إلى مقامات أخرى/ تثبيت المواقف على مخرجات المعنى والقيمة والإنتاج والفعل.

العربية لغة معارف وإنتاج وإنتاجية وتربية على الحياة.

العربية في خدمة التشغيلية.

توصيات

  • التخلي عن البرمجة والمقاربة بالبرنامج في اتجاه المقاربة بالمنهاج هندسة تربوية تعليميّة متكاملة ومنها الشروع في إصلاح برامج العربية الحالية لتستقيم المناهج من الابتدائي حتّى الثانوي.
  • مراجعة هندسة التعلّمات والقطع مع درس الفروع والحصّة لاتباع المقاربة المقطعيّة المنظومية الادماجية بمدخل المهارات والوضعيات المقطعية المدمجة للتقويم داخل التعلّم لا مدخل المحتويات مجزّأة ومنفصلة.
  • تجديد مداخل تدريس النّحو والصّرف والبلاغة والمعجم بالاستفادة من نظريات نحو النصّ ونحو الخطاب وبلاغة الرمز والعلامة والإشارة والسعي إلى إيجاد روابط منطقية ودلالية بين منظومة تلك الأنحاء وبين مهارات التلقي والتعبير والإنتاج.
  • تطوير أجهزة القراءة النصيّة والأدبية بدءا بالمدوّنة المدروسة (مدخل المعنى والقيمة والحاجة والحرص على نقل المخرجات بالتعلّم اللغوي العملي والنّقل المشروعي والاستثمار) مع تجديد اختيار الموضوعات المدروسة في شكل مدارات تستجيب للرؤية المجالية للمنهاج.
  • تعميم التكوين في التربية العصبية وعلم النفس العرفاني والتربية الدامجة وبيداغوجيا التكامل على المتفقدين والمعلمين والأساتذة.
  • التكوين في البرمجيات الإبداعية الرقمية الحديثة وتجديد وسائل العمل ورفد عدّة أدواته بأدلة ومعينات وميسّرات تنجز في نطاق مشاريع المادة مركزيا وإقليميا وداخل الجهات وشبكة المؤسسات.
  • بناء الإطار المرجعي لتدريس اللغات وتقويمها من الابتدائي إلى الثانوي لتحديد منزلة العربية ومنع التداخل الألسني والتلوّث اللغوي مع بقية الألسنة.

وختاما يبقى مطمح تطوير العربيّة لغة إبداع وإنتاج وإنتاجية مطمح حياة بأكملها ومراد مجتمع يرنو أكثر من السابق إلى إنجاح إسهام المدرسة بعامّة وتعليم اللغات على وجه مخصوص في تحقيق مشروع النّهوض بالقيم والثقافة والتشغيل والاقتصاد والسياسة وكلّ المجالات.

نرتجي من الإبداع نهجا ومنهاجا يعتمد في تطوير تعليم العربية وتعلّمها أن يتخطّى تجويد الممارسات وتحسين المناهج التعليميّة ليعكس ملامح مقاربة مجتمعية شاملة يمكن أن توجد حلولا أنجع لمشاكل المجتمع التونسي على غرار بقيّة المجتمعات العربيّة. فيغدو التعليم اللغوي الإبداعي بذلك مدخلا من جملة مداخل إصلاحية ممكنة تجيز استشراف سبل إيجاد القيمة والمعنى في ما تقدّمه المدارس العربيّة لأجيال من متعلّميها عبر الانخراط الدؤوب في مسارات الإنتاج الكوني للمعرفة الإنسانية، واستعادة مكانة العربية لغة كانت طيلة عهود وعصور منارة تفكير وإبداع لمّا أدرك المشتغلون بها وعليها مكامن الجوهر الصّميم لفلسفة الإبداع اللغويّ فيها واتبعوا مقاربة موسوعية عمليّة لا تكتفي بمجرّد الحذق والاستخدام السليم للقواعد النحوية والصرفية ولا الفهم المكين للآثار والنّصوص، بقدر ما تصبو إلى جعل هذه اللغة ركيزة وجود ودربة كون وكيان.

 

 

تعليم جديد

 

إغلاق