مجلات ودوريات

سلسلة حكايات كما يجب أن تروى الحكاية الثالثة : أبو قير وأبو صير – الجزء الأول –

يحكى أنه في مدينة الإسكندرية بمصر عاش رجل اسمه أبو قير وكان يعمل صباغا في دكان داخل سوق المدينة، وقد جمع الكثير من الصفات القبيحة التي تظهر جلية في تعاملاته اليومية مع الزبائن ، فلم يكن أمينا ولا نزيها، لا يستحي ولا يراعي عرفا أو دينا إذ يحتال على الناس ويسلبهم بوضاعة ثم يلجأ للتحايل والكذب.

إن جاءه زبون ليصبغ قماشا طلب منه الأجرة مسبقا متحججا أنه بحاجة لثمن شراء الصباغ لكنه يأخذ المال لنفسه، بل ويزيد عليه ثمن بيع القماش الذي تركه صاحبه ليصبغ ويصرفه في شراء ما لذ وطاب من أكل وشراب.

وإذا أتاه صاحب القماش يقول له عد في الغد وقبل طلوع الشمس ستجده مصبوغا، ولما يرجع إليه في الموعد المحدد يستسمحه لأنه لم يتمكن من العمل بحجة نزول ضيوف عنده فاضطر إلى القيام بواجب الضيافة معهم وانشغل، ويؤكد له أنه سيجده حاضرا إذ ما عاد في الغد، فيذهب الزبون على أمل أن يأخذه غدا، وعند عودته لليوم الثالث يعتذر منه متعللا بولادة زوجته ليلا مما ألزمه قضاء مصالحها ويخبره بالعودة لاحقا، ولكن برجوعه يلتمس له عذرا آخر وحيلة جديدة  ويواصل التسويف  إلى أن يستاء الزبون ويطلب قماشه من غير صباغة وهنا يؤلف أبو قير حكاية مؤثرة حيث يقول :” لقد صبغت حاجتك صبغا لا مثيل له في الحسن والإتقان ونشرتها لتجف وتثبت الألوان فسرقت ولا أدري من فعل ذلك، وقد استحيت أن أخبرك لولا أن ألححت علي” ، فإن كان صاحب القماش طيبا كريم النفس يحتسب أمره ويسامحه حتى في الأجرة، وإن كان عنيدا أو جبارا يتشاجر معه وقد يصل الخصام للشكوى في دار القضاء، ولكنه لا يحصل منه على شيء.

وما يزال أبو قير في ألاعيبه واحتياله حتى صار سيء السمعة، واشتهر بين الناس بل وصاروا يضربون به المثل وحذروا منه فلم يعد يقصد محله أحد أو يطلب خدماته، إلى أن جاءه ذات يوم رجل غريب عن المدينة جاهل بحاله، وطلب منه صباغة قميص، فطالبه أبو قير بالأجرة مسبقا وباع القميص واشترى بالمال لحما وخضارا وفاكهة وعصيرا من أجود الأنواع.

صار صاحب القميص يجيء كل يوم لأخذه وأبو قير كعادته يماطل ويتحجج ولما أخبره أن قميصه سرق غضب الرجل الذي كان ذا نفوذ ومكانة فاشتكاه إلى القاضي فأرسل معه جندا، وما إن رآهم أبو قير قادمين نحوه حتى هرب واختبأ.

وصل الرجل بصحبة الجنود وفتشوا المحل ثم قاموا بغلقه وتشميعه فلا شيء ثمين به ليتم حجزه وتعويض ثمن القميص.

لم يجد أبو قير مكانا يجلس به  طول اليوم غير محل جاره الحلاق أبو صير وهو رجل طيب على خلق ، فضلا عن انه مجتهد في عمله ومخلص.

أشفق أبو صير على أبي قير وأخذ يحفف عنه ويواسيه ثم سأله:” أين حاجة الرجل ردها إليه وسيعاد فتح محلك، أحسن من بقائك عاطلا عن العمل.”

رد أبو قير متحسرا:” آه يا جاري لقد سرقت مني ” ، فقال أبو قصير :” عجبا كل مرة يسرق اللصوص ما تصبغه، هذا غير معقول، قل كلاما غير هذا يا جاري “.

فكر أبو قير قليلا ثم قال :”سأخبرك بالحقيقة، كل من يقصدني لأصبغ له شيئا أقوم ببيعه وأصرف ثمنه، لأني فقير وبحاجة لمصاريف ” فنهره أبو صير قائلا :” الويل لك يا هذا، ما هذه الفعال ألا تعلم أن ذاك سحت، إذ أنك تأكل أموال الناس باطلا وعدوانا، ألا ترى حالي وفقري ولكن أبدا لا أفكر في السطو على ممتلكات الغير”.

تظاهر أبو قير بالندم والأسى وقال: ” حالك من حالي، فلماذا لا نغير هذا الوضع، أنا أيضاً مللت البقاء من غير عمل هيا بنا نسافر ونلتمس الرزق في مكان آخر وفي الحركة بركة “.

تردد أبو صير في قرار السفر لأنه لم يفارق أرض مولده يوما لكن أبا قير أخذ يعدد له محاسن السفر وفوائده ويمنيه بالعمل الكثير والربح الوفير إلى أن أقنعه واتفقا على الرحيل.

تعاهد الرفيقان على البقاء معا والتعاون سويا، ومن عمل منهما يعيل الآخر ولو بقي عاطلا لوقت طويل، وجعلا بينهما صندوقا يجمعان فيه المال حتى إذا ما رجعا إلى الإسكندرية اقتسماه بالتساوي.

أغلق أبو صير  دكانه وسلم المفاتيح لصاحبها وأخبره أنه لن يؤجرها منه بعد اليوم لأنه مسافر للعمل في مكان آخر.

حمل أبو صير أغراضا بسيطة وتوجه مع أبي قير إلى الميناء لركوب سفينة بحرية.

اختار المسافران إحدى السفن المتجهة شرقا وصعدا على ظهرها قبل طلوع الفجر لأن من عادة السفن الإبحار باكرا.

أعلن القبطان وقت صلاة الفجر فصلى الركاب جماعة ثم تفرقوا كل لمكانه أو عمله.

لاحظ أبو صير أن عدد الركاب كبير وأغلبهم بحاجة إلى حلاقة، فأدرك أن الله تعالى قد فتح عليه باب رزق واسع.

وبما أن الزاد قليل فقد قرر أن يطلب لقاء عمله طعاما وشرابا، فصار يحضر الأرغفة والماء الحلو ويقتسم بالتساوي مع صاحبه أبي صير الذي كان يقضي وقته في النوم متأثرا بدوار البحر على حد قوله.

كان أبو صير رجلا نشيطا ودودا، يأخذ كل صباح عدته ويضع خرقة على كتفه وينطلق للعمل، فجمع الكثير من الطعام من الركاب الذين حلق لهم، أرغفة وقطع جبن وزيتون، إلى أن وصل إلى قبطان السفينة وهو رجل قوي البنية طيب النفس أعجب كثيرا بهمة أبي صير واستلطفه وتعاطف معه وصار يطلب خدماته، وبعدما عرف قصته وأدرك حاله أمره أن يأخذ المال كأجرة لعمله وهو سيوفر له الطعام ولرفيقه.

عاد أبو صير ومعه الطعام الكثير وأيقظ أبا قير وأخبره بما جرى معه فسر أشد ما سرور وقال:” اذهب أنت وكل عند القبطان لأني متعب، وسأبقى هنا وآكل ما أحضرته.”

ذهب أبو صير إلى القبطان خجلا ولما وصل لاقى الترحيب بحفاوة فزال عنه الارتباك، ورأى مائدة فاخرة بأنواع طعام لم يتذوقها من ذي قبل.

نظر القبطان يمينا وشمالا ثم سأل أبا صير:” أين رفيقك؟” فرد: ” لم يحضر معي يا سيدي إنه مصاب بدوار البحر. ”

فقام القبطان بملء صحن كبير من جميع ألوان الطعام يكفي أربعة رجال وطلب منه أن يأخذه فيما بعد لرفيقه.

تعشى أبو صير مع الجماعة وتجاذب معهم أطراف الحديث ولما فرغ عاد إلى صاحبه ومعه الصحن فالتهمه في دقائق وعاد للنوم.

صار أبو صير يمضي النهار في العمل و يأخذ قطعة فضية من كل زبون ويضعها في الصندوق أما في الليل فانه يقصد القبطان ليتعشى معه ويحضر لرفيقه نصيبه واستمر على هذا الحال حتى رست السفينة على الشاطئ فخرجا ودخلا مدينة كبيرة وجميلة.

استأجر أبو صير غرفة في خان صغير وصار كل يوم يتجول في المدينة ويحلق للناس بينما  يبقى أبو قير في الغرفة نائما مدعيا أنه مازال متأثرا بدوار البحر لا يستيقظ إلا عند حضور الطعام ليأكل ثم يعاود الاستلقاء  ثانية، واستمر الحال هكذا أربعين يوما إلى أن مرض أبو صير من شدة التعب والعمل الدائم فكلف بواب الخان لشراء اللوازم، لكن المرض اشتد عليه حتى غاب عن الوعي فلم يجد أبو قير من يعد له الطعام فحمل صندوق المال ورحل.

يتبع…

إغلاق