مجلات ودوريات
سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الثالثة: أبو قير وأبو صير –الجزء الثاني-
ترك أبو قير رفيقه مريضا مُشرفا على الهلاك، بعدما استولى على ماله وقصد السوق أين اشترى ملابس جديدة وطعاما جاهزا، ثم أخذ يتفرج على المحلات، ومن دكان لآخر لفتت انتباهه مصبغة، فتوجه إليها ولاحظ غياب الألوان بها عدا اللون الأزرق الذي كان صباغ المعروضات بها.
ذهب عند بائع القماش واشترى منه قطعة حرير ثم عاد للمصبغة واقترب من صاحبها وسأله: “أتصبغ لي هذا القماش؟”
أجابه الصباغ: “إن أجرة الصبغ عشرون درهماً.”
اندهش أبو قير وقال: ” نحن نصبغ هذه في بلادنا بدرهمين فقط.”
فرد عليه: “عد إلى بلادكم واصبغها هناك، أما أنا فلا أصبغها إلا بعشرين درهم.”
استفسر أبو قير قائلا: “أي لونٍ تقترح علي لصبغها؟”
أوضح الصباغ: “الأزرق ولا لون عندي غيره.”
فاعترض أبو قير: “بل أريد الأحمر ولم لا الأصفر؟”
تعجب الصباغ وقال: “نحن في بلادنا أربعون صباغا لا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً وإذا مات منا واحدٌ نعلم ولده، وإن لم يخلف ولداً نبقى ناقصين واحداً والذي له ولدان نعلم واحداً منهما فإن مات علمنا أخاه وصنعتنا هذه متوارثة أبا عن جد منذ عقود ولا نعرف من ألوان الصباغة غير الأزرق.”
فأخبره أبو قير أنه صباغ ويعرف صباغة سائر الألوان ويمكنه أن يعمل عنده بالأجرة، فرفض الصباغ قائلا: “نحن لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا.”
اقترح أبو قير عليه: “افتح لي مصبغة وحدي ونتقاسم الأرباح.”
رد الصباغ: “ذلك غير ممكن أبداً.”
فتركه أبو قير وذهب عند صباغ آخر ليستعلم أكثر فأعلمه بما أخبره الصباغ الأول.
ومن مصبغة لأخرى كان يجد الجواب واحدا، فاغتاظ وقرر التوجه إلى قصر حاكم المدينة ليشتكي أمره.
دخل أبو قير إلى الحاكم وطلب الإذن بالحديث فسمح له الحاكم بالإفصاح عن شكواه.
فقال أبو قير: “يا عظيم الشأن، يا ملكا اشتهر بعدله وذاع صيته في مشارق الأرض ومغاربها، جئتكم من بلاد بعيدة ألتمس كرمكم وأعرض عليكم مَظلمتي وأنا الغريب الضعيف”.
واصل أبو قير ثناءه على الحاكم ثم سرد عليه ما جرى له مع الصباغين الذين رفضوا تشغيله كأجير لديهم أو تركه يعمل وحده كمعلم، وأخبره أنه ماهر بصناعة مختلف الألوان وأخذ يذكر ألوان الصباغ واختلافاتها، فنسب للأحمر كلا من العقيقي والقرميدي والقرمزي، وتكلم عن الأصفر وأحواله كالذهبي والكبريتي والليموني، و ذكر الأزرق بمستوياته من ياقوتي بحري ونيلي، والأخضر بمشتقاته المرمري والفستقي والزيتي، واستحضر الأسود ورتبه الفحمي والكحلي والقيري وهكذا صار يعين اللون ويعدد درجاته حتى عدد الكثير منها.
فاستغرب الحاكم لوجود كل هذه الألوان وأعجب بكلام أبي قير وسعة معرفته وقال: “لا عليك، سأمنحك بيتا بفرشه لتسكن فيه، وأفتح لك مصبغة وأعطيك رأس مال ولك حمايتي فلن يتعرض لك أحد بسوء.”
سُرَّ أبو قير بمساعدة الحاكم له وأخذ معه فريقا من البنائيين والمهندسين، قاموا بإنشاء المصبغة في السوق، وجهزها بالعُدة وأحضر بعض الخدم وعلّمهم طريقة الصبغ، وصار هو يحضر مختلف الألوان، فكان يستخرج الأحمر من الديدان التي تنمو على أشجار البلوط حيث يغلي الديدان ويضعها في محلول ملحي حامضي لتفرز عصارات ملونة، ويحصل على الأصفر من أزهار نبتة الزعفران والكركم، و يُعد البنفسجي من النباتات التي تنبت على ساحل البحر، ويحضر اللون الأزرق من نبات النيل، ثم يقوم بمزج هذه الألوان لاستخراج ألوان أخرى، ولكنه احتفظ لنفسه بهذه الوصفات التي كان يعد منها براميل، و يجعل الأجراء يصبغون حاجيات الناس الذين سلب عقولهم جمال الألوان الجديدة وسحرت عيونهم نظارتها وجاذبيتها التي لم يروا لها مثيلا من ذي قبل.
كما ابتهج الحاكم بمجموعة الأقمشة الملونة التي أهداه إياها أبو قير، فأمر أن تصرف له مكافأة قدرها ألفي درهم.
أما أبو صير بعدما بقي في الغرفة والباب مقفل عليه ارتاب بواب الخان وانتبه أنه مدة ثلاثة أيام لم يسمع حركة ولم ير الباب يُفتح، فقال في قرارة نفسه: “ربما سافرا ولم يدفعا باقي أجرة الحجرة، أو أصابهما مكروه، فلم يعودا.” ثم اقترب من باب الحجرة وسمع أنينا، ففتحه بسرعة ورأى أبا صير طريح الفراش يتأوه من شدة الألم فقال له: “لا بأس عليك يا أخي أين رفيقك؟”
فرد عليه: “لا أدري فقد كنت فاقد الوعي ولم أفق إلا اليوم، فأرجو أن تساعدني. اُنظر عن يميني تجد صندوقا، اِفتحه وخُذ منه بعض المال واشترِ لي دواء يخفض الحمى وشيئا أقتات به، لأني متعب جدا وأشعر بجوع شديد “.
بحث البواب في كل أرجاء الحجرة عن الصندوق ولم يجد له أثرا فقال: “لا بد أن رفيقك أخذه”
فقال أبو صير: “رفيقي لم أره منذ مرضت أما رأيته أنت؟” فأجاب: “ما رأيته منذ ثلاثة أيام فقد ظننتكما سافرتما، ولكن لا تقلق، سأحضر لك طعاما ودواء بإذن الله”.
أحضر البواب حكيما ليفحص أبا صير فوصف له الدواء وأمر بالاعتناء به وتوفير أسباب الراحة له، لأنه بحاجة إلى رعاية خاصة وإلا ازداد وضعه سوءا.
اعتنى البواب بأبي صير مدة أربعة أشهر، ولم يدخر جهدا في خدمته فقد كان يعطيه الدواء في مواعيده ويحضر له حساء الخضار الساخن وعصير الفاكهة الطازجة، كما يقوم يوميا بتهوية الغرفة وتغيير الفراش ويساعده على التيمم بالتراب ليصلي متكئا، إلى أن شُفي تماما من مرضه وتمكن من الوقوف، فقام وشكر البواب الطيب و وعده أن يعوضه بعد أن يعمل ويقبض، لكن البواب رفض المقابل وأكد له أنه ما قام معه إلا بالواجب ابتغاء مرضاة الله، وابتسم قائلا: “تذكر يا أخي أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.”
حمل أبو صير عدة العمل وتوجه إلى السوق يبحث عن رزقه فرأى الناس مجتمعين أمام باب مصبغة كبيرة يتفرجون على الأقمشة المعلقة فتقدم وسأل رجلاً من أهل المدينة: “لِمَ الناسُ مزدحمة هكذا؟”
رد الرجل: “هذه مصبغة أنشأها الحاكم لرجل غريب عن المدينة وهو بارع في إنتاج الألوان، فكلما صبغ شيئا اجتمعنا لنتفرج عليه لأننا لم نعهد مثل هذا الإتقان من صباغينا.”
تقدم أبو صير وشق صفوف الناس إلى أن وصل لباب المصبغة، فلمح أبا قير جالساً على كرسي فاخر وأمامه مكتب وعليه ملابس فاخرة وبجانبه أربعة خدم وعشرة من الأجراء يعملون ويفعلون ما يأمرهم به.
دخل أبو صير المصبغة ضانا أن رفيقه سيفرح عند رؤيته، ولكن بمجرد أن وقع عليه بصره قام غاضبا ونهره قائلا: “اُخرج من هنا أيها اللص، أنت لا تستحي سارق ومجاهر، عدت إلي بعدما فعلته معي، لقد سامحتك لكنك رجعت لتسرق من جديد، أغرب عن وجهي”.
وأمر خدمه بسحله خارجا وضربه، فصدق الناس أنه سارق فقاموا بشتمه ونعتوه بأقبح الصفات.
رجع أبو صير إلى الخان في حال يرثى لها وجلس يفكر فيما فعل به أبو قير، إلى أن دخل عليه البواب وطيب خاطره قائلا: “لا تهتم لأمره الله سيجازيه ويوقعه في شر أعماله، السوق كبير واسع يمكنك أن تعمل بعيدا عنه، وما تدري أين هو رزقك، هيا يا رجل لا تيأس من رحمة الله، لعل في ذلك خير لك.”
عاد أبو صير للسوق وأخذ يبحث عن مكان يغتسل فيه ليرفع ما علق به أتربة وأوساخ عندما سحله الخدم على الأرض، فأخذ يسأل المارة عن المغتسل ولا أحد يفهم عليه، ولما شرح لهم أنه مكان للاستحمام وإزالة ما يعلق بالجسم من أدران دلوه على البحر، فأدرك أن المدينة بلا حمام عام، فتوجه للبحر واغتسل ثم ذهب عند الحاكم ليعرض عليه فكرة إنشاء مكان خاص للاستحمام.
دخل أبو صير عند الحاكم وحياه بما يليق بمقامه ثم شرح له أن مدينته ستكون أفضل لو بنى بها حماما.
فسأله الحاكم: “وماذا تقصد بالحمام، فأنا بحياتي كلها لم أسمع عن مكان كهذا، في ماذا يستعمل؟”
بدأ أبو صير بالشرح قائلا: “أيها الملك النبيل إن في بلادي التي كنت أسكنها الكثير من الحمامات وهي مهمة جدا في حياتنا اليومية، ومكانها يكون أمام المساجد أو في وسط الأسواق،لأن الاستحمام من الممارسات اليومية والضرورية للناس، فهي تحقق النظافة والاسترخاء وحتى التطبيب، وكما لا يخفى عنكم أن الطهارة واجبة لطقوس التعبّد وإقامة الشعائر، ولا سيّما إقامة الصلاة والصوم، وعليه فغياب المغاسل عن المدينة يعني غياب وسيلة من وسائل الراحة والرُّقي.”
فقال الحاكم: “صدقت ولم ننتبه يوما لهذا فالعامة يقصدون البحر للاغتسال، أما أنا فاغتسل في غرفة عادية مثل باقي الغرف، فكيف هو حمامكم إذن؟”
أجاب أبو صير: “الحمام العام هو بناء ضخم به فتحات تصريف البخار للأعلى، جدرانه سميكة ويحتوي على عدة قاعات وغرفه كثيرة تتوسطها بحرات يتدفق الماء الساخن لها من سخانات وغلايات خاصة للماء، وهناك من يستغل المياه الساخنة التي ترد من العيون الطبيعية أو الكبريتية النابعة من باطن الأرض، لِما لها من خصائص علاجية بفضل المعادن الموجودة بها، ويمكن ارتياده صيفا وشتاء وخاصة مع برودة الطقس، لأنه يوفر وسطا دافئا، ولكل فرد غرفة خاصة به للخصوصية، ولتجنُّب المرض أو العدوى من شخص آخر، إذْ بعد انتهاء أي شخص من الاستحمام يتم تطهير المغسل الخاص به، كما تُفرش الأرضية ببعض النباتات والطيب، وقد تجد به أنواعا مختلفة من الصابون و أجود المناشف، ولتعلموا أيها الملك أني حلاق وكثيرا ما كنت أعمل داخل الحمام في مدينتي حيث أحلق للزبائن في قاعة الاستقبال قبل الاستحمام لأن ذلك يساعد على سهولة الاغتسال و الشعور بالاسترخاء.”
رحب الحاكم بفكرة الحمام و قرر مساعدة أبا صير على تنفيذها.
يتبع…