مجلات ودوريات

سلسلة حكايات كما يجب أن تروى الحكاية الثالثة: أبو قير وأبو صير – الجزء الثالث والأخير –

بدأ أبو صير في تنفيذ مشروع إنشاء حمام في المدينة، فاختار مكانا مناسبا و وصف للمهندسين البناء بدقة، فقاموا برسم مخططات أنجزها البناؤون بعناية، وبعد الانتهاء من العمل وضعوا نقوشا مزينة من الرخام والحجارة الملونة فبدا الحمام كتحفة فنية رائعة الجمال تثير بهجة الناظرين.

وآثر أبو صير أن يطلق عليه اسم “حمام الحاكم”.

اِحتاج أبو صير إلى عمال ليقوموا على تنظيم الحمام وتنظيفه، وغيرها من المهام التي من شأنها ضمان نجاح واستمرارية العمل، فتوجه إلى بواب الخان وسأله عن الناس المحتاجين وهم من غير عمل لأنه لا يعرف أهل المنطقة، فدله البواب على رجل يطلب الصدقات أمام الخان وهو شخص طيب و خلوق، لكن به عاهة جسدية جعلت كل من يطلب العمل عنده يرده، فتوجه إليه أبو صير وقال له: “هل تريد أن تعمل معي خيرا من سؤال الناس وبذل ماء الوجه والذل؟”.

رد الرجل: “أود العمل ولكن كما ترى أنا أعرج ولا أحد يريد تشغيل أعرج.”

فسأله أبو صير: “وهل تعرف الحساب؟”.

أجاب الرجل: “نعم تعلمت ذلك في الكتاب وأنا صغير وما زلت أجيده.”

فقال له أبو صير: “إذن هيا معي ستكون قابض الحمّام.”

وأخذ يبحث من مكان لآخر وكلما وجد متسولا أو شخصا بلا عمل عرف أحواله وسأل عنه فإن كان حسن السيرة ضمه لفريق عمله إلى أن اكتملت المجموعة.

أخذ أبو صير العمال إلى الحمام وعرفهم به وألحق كلا بمنصب عمله، وأخذ يعلمهم الواحد تلوى الآخر ما يجب القيام به، وأكد عليهم أنه أخوهم لا رئيسهم وأهم شيء عنده هو الانضباط والأمانة، ولهم أن يقصدوه في أي وقت ولا يخجلوا من طلب ما يحتاجونه أو اقتراح أفكار جديدة أو الشكوى من أمر يزعجهم.

ذهب أبو صير عند الملك وأخبره بانتهاء بناء المغاسل وتجهزيها بلوازم الاستحمام، ودعاه ليكون أول من يستحم به وجهز له حجرة خاصة وملأ الحوض بالماء الساخن ورشه بماء الورد ليترطب جسده و أعطاه صابونا صنعه من زيت الزيتون كتركيبٍ أساسيّ بالإضافة إلى عصارة بعض النباتات العطرية، ودله على طريقة استعماله وعدّد له فوائده، وبعدها استأذنه في أن يحلق له فعدل شعره وصففه بإتقان.

دخل الحاكم ليستحم فأعجب بحوض الماء الساخن وبقي لساعتين داخل المغسل، فخشي أبو صير أن يكون قد أصابه مكروه، فطرق الباب للسؤال لكن الملك رد أنه مستمتع وسيبقى قليلا بعد.

خرج الملك من الحمام وشعر بالنشاط والخفة وقال لأبي صير: “في حياتي لم أشعر هكذا حقا كفيت ووفيت وما صارت مدينتنا مدينة إلا بمغسلك هذا.” وأعطاه ألف درهم ثم سأله: “وكيف تفعل في الأجرة؟

قال: “أجعل الأجرة حسب المقدرة وكل يعطي ما سمحت به نفسه، فنأخذ من كل إنسان على قدر حاله، فإن الأمر إذا كان كذلك تأتي إلينا الخلائق والذي يكون غنياً يعطي على قدر مقامه والذي يكون فقيراً يعطي ما يسمح به وضعه، وهكذا يستحم الجميع، أما الألف درهم فإنها عطية الملك ولا يقدر عليها كل الخلق”.

طلب أبو صير أن يعدوا الشاي والحلويات الشرقية للملك الذي اندهش من محبة العمال واحترامهم لأبي صير رغم أنه غريب عن المدينة وأهلها لا يعرفونه، فسأل أبا صير عن سر هذا التوافق والقبول فأوضح أبو صير قائلا: “لقد نظم ديننا الحنيف كل سبل التعامل والمعاملات فقد قال رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام-: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”. وهُم عمال شرفاء مثابرون يستحقون أن أؤدي حقوقهم بقدر أداء واجباتهم، كما أن الرفق بهم وعدم إيذائهم بما لا يطيقونه ومراعاة أحوالهم جعلهم يردون بالمثل.”

انبهر الحاكم بحكمة أبي صير ورجاحة عقله والتزامه وقال له: “من اليوم يا أبا صير يمكنك أن تعتبر نفسك صديق الملك وكل طلب لك مجاب.”

قال أبو صير: “أيها الملك النبيل لقد شملتموني بكرمكم وعطفكم من قبل أن تعرفوني وهذا جميل لن أنساه أبدا، وفقكم الله وجزاكم كل خير.”

عاد الملك للقصر وأرسل كل أكابر الدولة للحمام فاغتسلوا وسروا بذلك كثيرا.

لما رأى أبو صير هذا الإقبال الكبير للمقتدرين قرر أن  يكرم الفقراء ويجعل لهم يوما في الأسبوع للاغتسال مجانا، أما بقية الناس فكل يدفع بما تجود به نفسه فامتلأ صندوق المغسل بالمال وجعل يوفر منه إذ ما عاد لبلاده.

ووافق أن زار الحمام قبطان السفينة الذي أكرم أبا  قير عندما سافر معه ودعاه للاستحمام، فأعجب القبطان بهمة أبي صير ونجاحه وبعد انتهائه من الاستحمام جلس في الليوان يتسامر مع أبي صير ويسمع أخباره، وسأله عن رفيقه لكن أبا صير آثر أن يتجاهل الأمر وأن لا يخوض في سيرته كي لا يسيء إليه رغم ما فعله معه واكتفى بالجواب: “لقد وجد عملا لنفسه واستقل في مكان آخر”.

استأذن القبطان وذهب لزيارة الحاكم لأنه صديق له ويحب رؤيته عند كل مرور بالمدينة حيث يحمل له كل مرة شيئا غريبا يجده في البلدان التي يزورها.

وأما ما كان من أمر أبي قير فإنه لما سمع عن الحمام قرر الذهاب إليه ليرى هذا النعيم على الأرض شغل أحاديث الناس.

و لبس أفخر ما كان عنده من الملابس وأخذ أربعة من خدمه وتوجه إلى الحمام، ثم نزل في باب الحمام فشم رائحة العود والند ورأى أبا صير فأسرع إليه واحتضنه قائلا: “أين أنت يا رفيقي لقد عجزت وأنا أفتش عنك وأبعث خدمي يبحثون عنك في الخان وسائر الأماكن فلا يعرفون طريقك ولا أحد سمع بخبرك”.

فقال له أبو صير: “ما لك يا رجل؟ أما جئت إليك واتهمتني بالسرقة وجعلتني لصاً وضربتني وشتمتني بين الناس”.

فتظاهر أبو قير بالدهشة والغم  وقال: “ما هذا الكلام؟ هل أنت الذي ضربتُ؟”

فقال أبو صير: “نعم هو أنا، بشحمه ولحمه”.

فأخذ أبو قير يعتذر ويبرر بأنه لم يعرفه و إنما كان واحدٌ يشبهه يأتي في كل يومٍ ويسرق قماش الناس، فظن أنه هو وصار يتندم ويضرب كفاً على كفٍ ويقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي، العظيم قد أسأت إليك من غير قصد ولكن يا ليتك عرفتني بنفسك وقلت أنا فلان، فالعيب عندك لكونك لم تقدم نفسك،  خصوصاً وأني مع كثرة الأشغال مُنهكٌ مما أدى إلى نقص تركيزي”.

فقال له أبو صير: “سامحك الله يا رفيقي”.

قال أبو قير: “ومن أين لك كل هذا؟”

رد أبو صير: “الله فتح علي أبواب رزقه، فقد لجأت للملك وأخبرته بشأن الحمام فأمر ببنائه”.

بعدما فرغ أبو قير من الاستحمام أحضر له أبو صير الغداء حتى تعجب الناس من شدة إكرامه له.

أخذ الرفيقان يتحدثان فقال أبو قير لأبي صير: “يا رفيقي هذا الحمام عظيمٌ هل زاره الملك ؟”.

قال أبو صير: “نعم وهو أول من استحم به”.

فسأله أبو قير: “هل حضرت له مرهم علاج آلام المفاصل الذي كنت تعده للناس قبل الاستحمام في مدينتنا؟”

قال أبو صير: “آه لقد نسيته تماما وغاب عن ذهني سأحضره له  من الخردل والعسل فهو مفيد جدا، وعندما يأتي للاستحمام وسأجعلها له مفاجأة تسره .”

ودع أبو قير رفيقه على أن يلتقيا لاحقا وذهب للقاء الملك.

لما وصل حياه قائلا: “أيها الملك الكريم، لم أنس يوما صنيعكم الطيب معي لذا فإني جئتكم بخبر يهمكم وما أنا إلا ناصح لكم”

فقال له الملك: “أي خبر  وما نصيحتك؟”.

قال أبو قير: “بلغني أنكم بنيتم حماماً لرجل غريب”، فقاطعه الملك: ” لقد أنشأته كما أنشأت لك المصبغة وهو حمامٌ عظيمٌ قد تزينت المدينة وانتفعت به الرعية” وأخذ يذكر محاسن الحمام ويثني على صاحبه، فقال له أبو قير: “إن هذا الرجل التي تعددون خصاله الطيبة وميزاته ليس سوى خائنا مدسوسا عليكم، وما حملكم على إنشاء هذا الحمام إلا لأن مراده أن يدخل عليكم فيه السم، فإنه صنع لكم شيئاً من المراهم ليوهمكم أنه دواء يزيل آلام المفاصل ولكنه ليس بدواء وهو سم قاتل إن دهنت به جزءا من جسدك نفذ إلى الداخل وكان هلاككم، فقد وعده سلطان إحدى الدول الأعداء أنه إن قتلك يفك له زوجته وأولاده من الأسر عندهم، فقد كنت مأسوراً معه في بلادهم ولكني فتحت لهم مصبغةً وصبغت لهم حوائجهم وعلمتهم الصنعة فاستعطفوا علي قلب الملك فأعتقني وجئت إلى مدينتكم، ولما رأيته في الحمام سألته كيف كان خلاصه وخلاص عائلته أخبرني  أن زوجته وأولاده مازالوا مأسورين، حتى أن ملك تلك الدولة عمل ديواناً فتح فيه مذاكرة الملوك إلى أن ذكروكم أيها الملك العظيم  فاستاء ملك تلك الدولة و قال: ما قهرني في الدنيا إلا هذا الملك فكل من تحيل لي على قتله فأني أعطيه كل ما يتمنى، فتقدم إليه وتعهد بقتلكم لقاء أن يعتقه وأهله، فأرسله في سفينة إلى هنا لينفذ خطته بإدخال السم إلى جسدكم يوماً وليلةٍ حتى يسري إلى قلبكم لا قدر الله فتهلكون، ولما عرفت بمكره وخديعته سارعت لإخباركم ففضلكم شملني  وخيركم لا ينسى.”

فلما سمع الملك هذا الكلام غضب غضباً شديداً وقال للصباغ:” اكتم هذا السر، ولي معه شأن آخر”.

وفي الغد ذهب الملك إلى الحمام حتى يتأكد من الأمر، فسر أبو صير لرؤيته وأسرع للترحيب به وأجلسه في الليوان وقام بواجبه من إكرامه بالفواكه والشاي والحلويات ثم عرض عليه مرهم علاج آلام المفاصل، فغضب وصاح على الأعوان: “أمسكوه، وزجوا به في السجن الآن”، فقبض عليه الأعوان وخرج الملك وهو يستشيط غضبا وخصوصا أنه أحب أبا صير وأعجب بنبل أخلاقه لكنه صدم به يتآمر على قتله.

لم يفصح الملك عن سبب اعتقال أبي صير  و لم يتجاسر أحدٌ أن يسأله، وعاد إلى القصر في غضب شديد وغم أشد.

أغلق الأُجراء الحمام وبقوا ينتظرون أمام الباب وكلهم حزن وأسى رفضوا أن يعملوا لحين عودة كبيرهم الذي علمهم واعتنى بهم ووفر لهم لقمة عيش كريم.

جاء قبطان السفينة إلى الحمام ليودع أبا صير قبل رحيله فأخبروه بأن الملك أسره، فصدم وأراد معرفة سبب سجنه فأكدوا له أنهم يجهلون السبب ولم يجرؤوا على سؤال الحاكم خوفا من الزج بهم في السجن أيضا.
احتار القبطان وأسرع إلى الحاكم ليستفسر عن حال أبي صير و لكن الحرس نصحوه بعدم الخوض في المسألة لأن الحاكم مستاء جدا وحاله لا تصر حبيبا ولا عدوا.

تريث القبطان وفكر قليلا ثم قرر الدخول إلى الحاكم ومحاولة مجاراته في الكلام والأخذ بخاطره ومن ثمة الاستفسار.

حيا القبطان الحاكمَ وأخبره أنه مر ليودعه ويسأله إن كان يريد شيئا ليحضره له معه في المرة القادمة، فرد الملك: “تعود إلينا بالسلامة إن شاء الله لا أريد شيئا. ”

فقال القبطان: “سلمتم لنا يا ملك العدل والصفح لي عندكم حاجة لو سمحتم لي بذكرها.”

رد الملك: “اسأل تعطى فما عهدت منا غير ذلك.”

فاغتنم القبطان الفرصة وكلمه عن أبي صير فاغتم الملك واغتاظ فاستدرك القبطان قائلا: “بالله عليكم يا مولاي فقد اعتدت منكم الحلم والرأفة فما هذا الانفعال، ولو كنت أعلم شرا عن أبي صير ما فتحت فمي بكلمة.”

فصرخ الملك: “وهذا ما حز في نفسي ثقتي الزائدة به ومحبتي له ورجائي الذي خيبه.”

فعجب القبطان لهذا الكلام وقال: “عذرا ولكن ما الأمر الجلل الذي غير نظرتكم عنه.”

فأخبره الحاكم بما سمعه من أبي قير  فقال القبطان: “لا أقصد التكذيب ولكني أظن أن هناك لُبساً أو احتيالا، فكما تعلمون أن أبا صير نال مكانة عظيمة عندكم واشتهر بين الناس، فلعل أحدهم حسده على النعمة و افترى عليه، والبينة على من ادعى وكان من الأولى سؤال أبي صير.”

فقال الملك: “و لِم أسأله وكلام الرجل صحيح فقد أعطاني مرهما للدلك وأخبرني انه لإزالة ألم المفاصل وما هو إلا سم قاتل.”

لكن القبطان أخذ يترجى الملك و يستعطفه إلى أن قبل استجواب أبي صير وأمر الأعوان بإحضاره من زنزانته.

فلما رآه الملك قال :”أما أكرمناك وأحسنا إليك وما أنت إلا خائن غدار”

فقال أبو صير: “العفو يا مولاي، ولكن لا أفهم سبب غضبكم، والله ما أعلم أني عملت معكم شيئاً قبيحاً، إن كنت فعلت معكم شيئاً يوجب القتل فعرفوني بذنبي واقتلوني وأنتم في حلٍ من دمي.”

فاستأذن القبطان بالكلام وأخبر أبا صير بما قاله رجل عنه فسأل أبو صير عن ماهية الرجل فقال الملك: “إنه الغريب الذي فتحت له المصبغة وقد سافر معك على السفينة التي قادتكما إلى هنا من بلاد الروم”.

فتفاجأ أبو صير وكاد يغمى عليه وأخذ يسرد للمك قصته مع أبي قير: “سأصدقك الحديث فأنا لا أعرف ذلك الملك ولا عمري ذهبت إلى بلاده وما خطر ببالي أن أقتلكم، ولكن هذا الصباغ كان رفيقي وجاري في مدينة الإسكندرية وضاق بنا العيش و قلّ الرزق فخرجنا منها للبحث عن عمل واتفقنا على أن يطعم العامل البطال، فكنت أعمل يوميا على السفينة التي ركبناها حتى وصلنا إلى مدينتكم وأقمنا في خان صغير ولكني مرضت وفقدت الوعي فأخذ مالي وتركني ضعيفاً في الحجرة و بواب الخان رجل كريم كان ينفق علي ويعتني بي حتى شفاني الله ثم طلعت وتجولت في السوق بحثا عن عمل فبينما كنت في الطريق إذا بي أرى مصبغة عليها ازدحام فنظرت في باب المصبغة فلمحت أبا قير جالساً هناك فدخلت لأسلم عليه فوقع منه ما وقع من الضرب والإساءة وادعى أنني  لص، وبعدها جاء عندي إلى الحمام واعتذر بأنه لم يكن يقصد إهانتي إنما لم يتعرف علي وقال لي اعمل الدواء وقدمه للملك فإن الحمام كاملٌ من جميع الأمور إلا أن هذا الدواء مفقود منه، واعلموا يا مولاي أن هذا الدواء لا يضر ونحن نصنعه في بلادنا وهو شائع الاستعمال قبل الاستحمام وفوائده عظيمة.”

قال الملك: “إننا نصدقك يا أبا صير ولكن لن نكرر الخطأ مرتين فتمهل حتى نتبين الأمر.”

أرسل الحاكم في طلب بواب الخان وعمال المصبغة فلما حضر الجميع سألهم فأخبروه بالواقع، فأدرك أنه كاد يقتل رجلا بريئا بسبب وشاية كاذبة فغضب كثيرا وأرسل جنده إلى الصباغ وقال: “أحضروه حافياً مكشوف الرأس مكتفاً.”

فقال أبو صير: “أرجوكم سامحوه فقد سامحته في حقي ولا أريد به سوءا.”

فقال الملك: “إن كنت سامحته في حقك فلا يمكن أن نسامحه في حقنا، هيا احضره إلي في الحال.”

لكن الأعوان لما وصلوا إلى المصبغة وجدوها مقفلة ولا أحد بها فقصدوا بيت أبي قير  لكنهم وجدوه خاليا لأنه هرب عندما رأى حراس الملك أخذوا عماله فارتاب في انكشاف أمره، فجمع كل ما استطاع من مال وهرب وبقي مختبئا في الميناء إلا أن حل الظلام وقلت الحركة فأخذ قاربا من على الشاطئ وأبحر.

أما الحاكم فقد طلب من أبي صير أن يتمنى عليه ما يريد فقال أبو صير: “أرجوكم يا مولاي أسمحوا لي بالعودة إلى موطني فقد اشتقت لدياري واكتفيت من الغربة.”

فقال الملك: “سترحل وقد اعتدنا عليك والحمام من سيديره بعدك؟.”

رد أبو صير: “سأزوركم من حين لآخر، أما الحمام فإنه هؤلاء العمال تعلموا الصنعة جيدا وهم أناس شرفاء أمناء ولكم أن تثقوا بهم.”

أعطى الملك مكافأة كبيرة لأبي صير وقال: “مرحبا بك عندنا في أي وقت أيها الطيب الكريم” وودعه على أمل رؤيته مجددا.

ذهب أبو صير عند بواب الخان وأعطاه كيسا مقفلا وقال هذه هدية لك ولأولادك ولن أنسى معروفك معي ما حييت، سأودعك لأني عائد إلى دياري ولكن سآتي لرؤيتك إن شاء الله.

ذهب بواب الخان إلى بيته وفتح الكيس فوجد به مبلغا كبيرا قرر أن يفتح به خانا جديدا  ويكون صاحبه و دعا لأبي صير بالتوفيق والسداد وقال: “اللهم بارك لهذا الرجل السخي، واحفظ عليه ماله وصحته.”

فأمن أولاده وزوجته على هذا الدعاء الصادق.

توجه أبو صير إلى الحمام وجمع حاجياته ووصى عماله خيرا بالحمام فترجوه بالبقاء، وضجوا وبكوا حزنا على فراقه.

ذهب أبو قير إلى الميناء فوجد القبطان بانتظاره و ما إن ركب حتى أقلعت السفينة تشق طريقها في البحر فقال أبو قير: “وأخيرا.. سأعود إلى مدينتي”.

لما اقتربت السفينة من الإسكندرية طلب أبو صير من القبطان أن يصطادا آخر وجبه لهما معا، ألقى القبطان الشبكة وإذا بها ثقيلة فأخذ يسحبها بقوة وساعده أبو صير قائلا: “لا بد أنها سمكة كبيرة تكفي الجميع.”

فقال القبطان: “انظر ما هذا إنها جثة رجل.”

نظر أبو صير إلى الجثة فإذا هو أبو قير فقال القبطان: “لا بد أنه غرق أثناء هربه .”

فأخرجه أبو صير من الشبكة وأخذه معه إلى مدينته ودفنه.

فتح أبو صير محلات كبيرة وصار غنيا جدا وذاع صيته، ولكنه لم يتخل يوما عن مكارم الأخلاق والفضائل فقد كان يساعد كل من يقصده ولا يبخل على المحتاجين ولا يستحل مُحرّما فوفقه الله وبارك له في ماله وأهله وعاش حياة سعيدة إلى أن توفاه الله فدفنوه بجوار قبر أبي قير، ومن أجل ذلك سمي هذا المكان بأبي قير وأبي صير واشتهر إلى الآن أنه أبو قير في الإسكندرية بأرض مصر.

إغلاق