مقالات وبحوث
سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الخامسة: السندباد البحري، الرحلة الرابعة
بعدما اجتمع السندباد بأهله وصحبه وأقام معهم مدة في هناء وسرور حدثته نفسه مجددا بالسفر وملاقاة الأجناس والبيع والشراء، فهمّ باقتناء بضاعة نفيسة تناسب البحر وحزم متاعه وسافر على بركة الله.
ومن بحر لآخر تنقل السندباد بين الجزر ومر بالمدن وطاب له السفر إلى أن لاحت في الأفق عاصفة فاضطر ربان السفينة للتوقف في عرض البحر خوفا من الغرق.
ولكن العاصفة بدأت في الاقتراب شيئا فشيئا وهب ريح عاصف شديد حطم الصارية وفك الحبال ومزق الأشرعة وتحول هيكل السفينة إلى أخشاب تتلاعب بها الأمواج المتلاطمة، فغرق بعض الركاب وتبعثرت جميع الحمولة والمتاع أما السندباد فقد كان يحاول أن يسبح بكل قوته عله ينجو فكان مرة يغوص ومرة أخرى يطفو إلى أن لمست يداه لوح خشب كبير من ألواح المركب فصعد عليه وتشبث به وبدأ البقية ينضمون إليه.
بدأ المجتمعون على اللوح يرفسون بأرجلهم كأنها مجاديف يتحكم بها رجل واحد، وساروا باتجاه الريح لكي تساعدهم على الإبحار بعيدا، وبقوا على هذه الحالة يوماً وليلة.
ولما طلع النهار فُوجئوا بموج عالٍ رمى بهم على جزيرة نائية وهم كالدمى بلا حراك من شدة السهر والتعب والبرد والجوع والعطش.
بدأ السندباد يحاول الوقوف لكنه كان يسقط أرضا وبعد عدة محاولات قرر أن يزحف للبحث عن شيء يأكله، وبعد جهد كبير رأى بعض النباتات وسرعان ما تعرف على أحدها وهو السرجس شوكي الثمار الذي ينتمي للأعشاب البنية المحتوية على معادن وفيتامينات مفيدة للجسم.
تناول السندباد بعضا منه وأخذ معه لمرافقيه فأكلوا منه ثم ناموا إلى أن لاح النور وأضاء الصباح، ثم قاموا ومشوا في الجزيرة فتراءى لهم بنيان عال فقصدوه حتى وفقوا أمام بابه وإذ بجماعة من الرجال الغلاظ يخرجون إليهم فقبضوا عليهم ومن غير أن يكلموهم قادوهم إلى ملكهم الذي أمرهم بالجلوس، فجلسوا وقد أحضروا لهم طعاماً لم يروه من ذي قبل فلم يأكل منه السندباد شيئا أما بقية رفقته فقد أكلوا من غير تردد وما هي إلا لحظات حتى ذهبت عقولهم وصاروا يأكلون مثل المجانين وتغيرت أحوالهم وبعد ذلك أحضروا لهم دهن النارجيل ودهنوهم به فاحتار السندباد في أمرهم وصار يتأسف على حالهم، و خائفا جدا على نفسه وأخذ يتلفت يمينا وشمالا حتى اكتشف أن هؤلاء الناس يقدسون النار ويعبدونها ويقدمون لها القرابين البشرية لذا فهم يطعمون أسراهم جيدا حتى يضحوا بهم.
بقي أصحاب السندباد يلتهمون كميات كبيرة من الطعام يوميا. وكل مساء يصطحبهم الحراس للتمشي على الجزيرة فكان السندباد يأخذ خلسة بعض النباتات ويأكلها وبعد شهر ازداد وزن أصحابه كثيرا وبقي هو هزيلا لا يهتم لأمره أحد فخرج من ذلك المكان وسار بعيدا عنه وبقي يتجول على الجزيرة ويأكل من نباتها لأيام، حتى لمح أناسا من بعيد فحقق النظر وإذا هم جماعة يجمعون حب الفلفل فلما اقترب منهم ورأوه تسارعوا إليه وأحاطوه من كل جانب وسألوه:”من أنت ..ومن أين أقبلت؟”
رد عليهم :”اعلموا يا جماعة الخير أني رجل غريب ونجوت من الموت بأعجوبة” وأخبرهم بجميع ما كان من أمره وما واجهه من الأهوال وقاساه من الشدائد.
فقالوا:” والله هذا أمر عجيب ولكن كيف خلاصك من عباد النار؟ وكيف كان مرورك عليهم في هذه الجزيرة وهم خلق كثيرون يقدمون الناس قرابينا للنار ولا يسلم منهم أحد؟”.
فقص عليهم السندباد ما جرى معه وكيف أخذوا أصحابه وأطعموهم الطعام ولم يأكل منه.
فهنؤوه بالسلامة وأحضروا له طعاما وشرابا ثم أخذوه معهم في مركبهم ونزلوا إلى جزيرتهم ومساكنهم وعرفوه بملكهم ورحب به وأكرمه وسأله عن حاله، فأخبره بقصته كاملة من يوم خروجه من مدينة بغداد إلى حين وصوله إليه، فتعجب الملك من قصته غاية العجب هو ومن كان حاضراً في مجلسه.
ثم قام السندباد من مجلس الملك واستأذنه بالخروج فأرسل معه أحد الخدم ليأخذه في جولة، فأُعجب السندباد كثيرا بالمدينة إذ أنها عامرة كثيرة الأهل والمال بها العديد من الأسواق والبضائع والحركة والنشاط.
استأنس السندباد بالناس وصار يجالسهم ويدخل على الملك معززا مكرما، يلتقي بأكابر الدولة ويتحدث إليهم فلاحظ أن الجميع وعلى اختلاف مهامهم يركبون الجياد من غير سروج فاستغرب لذلك وسأل الملك: “لأي شيء يا مولاي لم تركبوا على سرج فإن فيه راحة للراكب وزيادة قوة وسرعة؟”
رد الملك: “كيف يكون السرج؟.. هذا شيء ما رأيناه ولا ركبنا عليه من ذي قبل”.
قال السندباد: “هل لكم أن تأذنوا لي بصناعة سرج لتركبوا عليه؟”
فقال الملك: “حسنا افعل ذلك وسنرى”.
و أمر الخدم أن يحضروا كل اللوازم، فاستعان السندباد بنجار وحداد ثم شرع في العمل بصناعة سرج عربي، حيث بدأ بتجهيز القالب وهو من الخيش ثم قام بخياطة حمالات الحزام والركائب وهي التي تساعد على امتطاء ظهور الخيل وحجر رجل الفارس، وبعدها ركب عليه الحديد و الخشب وعبأه بالصوف وبعد ذلك بطن السرج بالجلد وركّب اللباد داخل السرج من الصوف وخاطه جيدا ليصبح متينا وزينه بقطع ذهبية وفضية وبعض الخرزات الملونة، فصار جاهزا للاستعمال وأحضر حصانا من خيار خيول الملك وشدد عليه السرج، وعلق فيه الركاب وألجمه بلجام وقدمه إلى الملك فأعجب به وشكره، وأعطاه شيئاً كثيراً من المال نظير عمله له.
فلما رأى الوزير ذلك السرج، طلب من السندباد واحداً مثله فعمل له سرجاً مثله. وقد صار أكابر الدولة وأصحاب المناصب يطلبون السروج فصار السندباد يتعاون مع النجار والحداد ويصنعون السروج ويبيعونها فحققوا أرباحا وفيرة وصار للسندباد مقاماً كبيراً، وأحبه الناس وصار صاحب منزلة عالية عند الملك وجماعته.
ذات يوم بينما كان السندباد في مجلس الملك وهو في غاية السرور قال له الملك: “لقد صرت واحدا منا، ولا نقدر على مفارقتك، ولا نستطيع خروجك من مدينتنا ومقصودي منك شيء تطيعني فيه ولا ترد قولي” فقال السندباد:” أمركم مطاع، فإني لا أرد قولكم من فضل وجميل وإحسانكم علي والحمد لله أنا صرت من بعض خدامكم”.
فقال الملك:”إذن ابق معنا وكون لك عائلة هنا”.
صمت السندباد ولم يرد عليه جواباً فقال الملك: “لماذا لا ترد يا ولدي؟”
طأطأ السندباد رأسه قائلا: “الأمر أمرك أيها الملك الكريم”.
فأرسل الملك في طلب القاضي والشهود وزوجه من امرأة شريفة القد، حسنة الخلق، كريمة النفس وطيبة، فقال السندباد في قرارة نفسه “إذا سافرت إلى بلادي آخذها معي، وكل شيء مقدر على الإنسان لابد منه ولا يعلم أحد بما سيجري له غدا”.
عاش السندباد في ألذ عيش وأرغد مورد ولم يزل على هذه الحالة مدة من الزمن، فأفقد الله زوجة جارهن وكان صاحباً له فدخل إليه ليعزيه ويعظم له الأجر فرآه في أسوأ حال وهو مهموم قلق فحاول أن يسري عنه قائلا: “لا تحزن على زوجتك فلله ما أعطى ولله ما أخذ، والله سيعوضك خيرا”.
فقال الجار: “يا صاحبي كيف يعوضني الله خيراً وقد بقي من عمري يوم واحد”.
فقاطعه السندباد: “ارجع لعقلك ولا تبشر على روحك بالموت فإنك طيب بخير وعافية”.
قال الجار: “في هذا النهار يدفنون زوجتي ويدفنوني معها في القبر فإنها عادتنا في بلادنا، إذا ماتت المرأة يدفنون معها زوجها بالحياة، وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته بالحياة حتى لا يتلذذ أحد منهم بالحياة بعد رفيقه”.
فاستنكر السندباد بقوله: “بالله ما هذه العادة السيئة التي لا يقبلها عقل ولا منطق، وما يقدر عليها أحد”.
وبينما السندباد في ذلك الحديث وإذا بغالب أهل المدينة قد حضروا وصاروا يعزون الجار في زوجته وفي نفسه وقد شرعوا في تجهيزهما على جري عادتهم، فأحضروا تابوتاً وحملوا فيه المرأة وزوجها وخرجوا بهما إلى خارج المدينة وأتوا إلى جانب جبل على البحر وتقدموا إلى مكان ورفعوا عنه حجراً كبيراً، فبان من تحت ذلك الحجر حفرة عميقة كأنها بئر فانزلوا تلك المرأة فيها، ثم إنهم جاؤوا بذلك الرجل وربطوه تحت صدره، وأنزلوه في ذلك الجب وأنزلوا عنده كوز ماء عذب كبير وسبعة أرغفة من الزاد، ولما وصل للأسفل فك نفسه فسحبوا الحبال وغطوا فم البئر بذلك الحجر الكبير مثل ما كان وانصرفوا إلى حال سبيلهم.
لما رأى السندباد ذلك تحسر وقال: “إن هذا الموت أصعب من الموت الأول”.
ثم ذهب عند الملك وقال له: “أيها الملك الحكيم، كيف تدفنون الحي مع الميت في بلادكم؟”
فقال الملك:” اعلم أن هذه عادتنا في بلادنا إذا مات الرجل ندفن معه زوجته وإذا ماتت المرأة ندفن معها زوجها بالحياة حتى لا نفرق بينهما في الحياة ولا في الممات وهذه العادة ورثناها عن أجدادنا”
فسأله السندباد: “وكذا الرجل الغريب مثلي إذا ماتت زوجته عندكم تفعلون به مثل ما فعلتم بهذا”
رد الملك: “نعم ندفنه معها ونفعل به كما رأيت”.
لما سمع السندباد ذلك الكلام من الملك أصابه هم وغم وذهل عقله وصار خائفاً أن تموت زوجته قبله فيدفنوه معها بالحياة، ثم أنه سلى نفسه لعله يموت قبلها وصار يشغل فكره في أمور أخرى كي يتجاوز هذه المصيبة، فما مضت مدة يسيرة بعد ذلك حتى مرضت زوجته وقد مكثت أياماً قلائل وماتت.
فاجتمع الناس يعزونه ويعزون أهلها فيها وقد جاء الملك يعزيه أيضا، ثم جاؤوا لها بغاسلة فغسلوها وألبسوها أفخر ما عندها من الثياب ووضعوها في التابوت وجمعوا كل ما في البيت من ذهب وحلي ومال ووضعوه في كيس وتوجهوا إلى الجبل، ورفعوا الحجر عن فم الجب وأنزلوا زوجة السندباد وكيس المال وأقبل جميع أصحابه وأهل زوجته يودعونه وهو يصيح: “أنا رجل غريب وليس لي صبر على عادتكم”، وهم لا يسمعون قوله ولا يلتفتون إلى كلامه.
ثم أمسكوه وربطوه وربطوا معه سبعة أقراص من الخبز وماء عذب، وأنزلوه في الحفرة فإذا هي مغارة كبيرة تحت ذلك الجبل، وقالوا له: “فُك نفسك من الحبال” فلم يرض أن يفك نفسه فرموا عليه الحبال ثم غطوا فم المغارة بذلك الحجر الكبير الذي كان عليها وراحوا إلى حال سبيلهم.
بقي السندباد في تلك المغارة بين عدد كبير من الأموات ورائحة منتنة لا تطاق، وصار يقتات باليسير ولا يأكل حتى يشعر بالجوع الشديد ولا يشرب حتى يشتد به العطش خوفا من أن يفرغ ما عنده من الزاد والماء، ولم يزل على هذه الحالة إلى أن رأى شيئا يتحرك فتراجع للوراء، وأخذ يدقق النظر لكن الظلام كان يسود المكان فسمع زمجرة ودمدمة فشعر بالخوف وبقي ساكنا ثم سمع عواء فأدرك أنها ذئاب تنهش الجثث، فشعر بالسعادة لأنه استنتج أن هناك منفذا من هنا وإلا كيف تمكنت الذئاب من الدخول.
حمل السندباد كيس المال وقام بإحداث ضجة فهربت الذئاب وأخذ يتبع صوت حركتها، حتى بان له نور من مكان صغير مثل النجمة تارة يظهر وتارة يختفي.
فلما قصده وجده منفذا للخروج فسار بعيدا حتى وصل إلى شاطئ البحر وبقي هناك مدة من الزمن يقتات على الطحالب البحرية، وبينما هو جالس ذات يوم على قمة جبل موجود بجانب الشاطئ إذا به يلمح مركبا سائرا وسط البحر، فأخذ يلوح بيده وينادي بأعلى صوته: “أنجدوني …أنجدوني” فرأوه في رأس الجبل، وجاؤوا إليه وأرسلوا زورقاً فيه جماعة من المركب، فركب السندباد معهم وسافر بصحبتهم من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، حتى وصل بالسلامة لِدياره وقابل أهله وأصحابه وسأل عن أحوالهم فسعدوا بعودته وصار في غاية البسط والسرور معهم وكعادته أكرمهم وهاداهم، كما لم ينس مساعدة الفقراء والمحتاجين بكل ما استطاع.