مجلات ودوريات

سلسلة حكايات كما يجب أن تروى الحكاية الخامسة : السندباد البحري ، الرحلة الثالثة

جاء السندباد من السفرة الثانية وقد كسب مالاً كثيراً وشعر بالسعادة والطمأنينة في دياره وأقام بين أهله وأصحابه مدة من الزمن إلى أن عاوده الشوق إلى السفر، فذهب واشترى الكثير من  البضائع المناسبة وسافر من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة ثم قصد ساحل البحر فوجد مركباً عظيماً وفيه تجار وأناس أهل دين ومعروف وصلاح فنزل معهم في ذلك المركب وسافروا على بركة الله و بعونه وتوفيقه مستبشرين بالخير والسلامة.

بقوا سائرين من بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة ومن مدينة إلى مدينة يتفرجون ويبيعون ويشترون وكلهم نشاط وانشراح بركوب البحر إلى أن هبت ريح قوية دفعتهم إلى جزيرة أولها مرتفع يدعى “جبل القرود”.

استاء ربان السفينة وبدت عليه علامات الخوف والارتباك فاقترب منه السندباد وسأله:” خيرا يا ريس ماذا هناك؟”

فأجابه:” أما تدري أين نحن؟ إنه جبل القرود وما وصل إلى هذا المكان أحد وسلم منه قط “.

وما كاد ينهي الربان كلامه حتى جاءت القرود وأحاطت بالمركب من كل جانب فخاف الركاب ولم يجرؤ  أحد على الاقتراب منها أو طردها خشية من عددها الكبير وشكلها الموحش فقد كانت عليها شعور مثل لبد السود بعيون صفر ووجوه سود وأجسام صغيرة طول كل واحد منهم أربعة أشبار وقد طلعوا على حبال المرساة وقطعوها بأسنانهم وقطعوا جميع حبال المركب من كل جانب فمال المركب ورسا على جبلهم فنزل الركاب بسرعة هربا من القرود التي استولت على المركب بما فيه.

مشى الركاب على الجزيرة وأخذوا يأكلون من ثمارها ويشربون من ينابيعها حتى لاح لهم قصر كبير عالي الأسوار فقصدوه ولما وصلوا إليه وجدوا له بابا مفتوحا بدفتين مصنوع من خشب الأبانوس فدخلوا فإذا هم بحظيرة واسعة وفي دائره أبواب كثيرة وفي صدره نصبت مصطبة عالية كبيرة وفيها أواني للطبخ معلقة على الكوانين وحولها عظام كثيرة ولا أحد في الجوار.

تعجب السندباد ومن معه مما رأوه وبقوا جالسين في الباحة ينتظرون قدوم سكان القصر وإذ بالأرض ترتج من تحتهم، وسمعوا دوياً من الجو وقد نزل عليهم من أعلى القصر شخص عظيم الخلقة في صفة إنسان، أسود اللون طويل القامة، له عينان كأنهما شعلتان من نار وفم عظيم بأسنان كبيرة ويدان غليظتان وأظافر طويلة مثل مخالب السبع.

كان شكل هذا المخلوق مخيفا يثير الفزع في النفوس مما جعل السندباد ورفاقه مثل الموتى من شدة الخوف والجزع ولم يشعروا إلا والعملاق يسحبهم الواحد تلو الآخر ويضعهم داخل قفص كبير فبدؤوا بالصياح ومحاولة الخروج والهرب ومنهم من كان يتساءل ما يكون هذا المخلوق المتوحش فطلب منهم أحد الرجال الهدوء حتى يتمكنوا من إيجاد حل لهذه المشكلة.

صمت الجميع وجلسوا هادئيين فبدأ رجل علم حكيم بالحديث قائلا:”لا تجزعوا فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ولا تستغربوا فالله يخلق ما يشاء وقد رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مخلوقات غريبة وعن ذلك روى مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس أنها سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي، مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: الصّلاَةُ جَامِعَةٌ. فَخَرَجْتُ إِلَىَ الْمَسْجِدِ. فَصَلّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَكُنْتُ فِي صَفّ النّسَاءِ الّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ. فَلَمّا قَضَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ، جَلَسَ عَلَىَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ. فَقَالَ: “لِيَلْزَمْ كُلّ إِنْسَانٍ مُصَلاّهُ”. ثُمّ قَالَ: “أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟” قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: “إِنّي، وَاللّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلاَ لِرَهْبَةٍ. وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ، لأَنّ تَمِيماً الدّارِيّ، كَانَ رَجُلاً نَصْرَانِيّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ. وَحَدّثَنِي حَدِيثاً وَافَقَ الّذِي كُنْتُ أُحَدّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدّجّالِ. حَدّثَنِي أَنّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيّةٍ، مَعَ ثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ. فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْراً فِي الْبَحْرِ. ثُمّ أَرْفَؤُوا إِلَىَ جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتّىَ مَغْرِبِ الشّمْسِ. فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السّفِينَةِ. فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ. فَلَقِيَتْهُمْ دَابّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشّعَرِ. لاَ يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ. مِنْ كَثْرَةِ الشّعَرِ. فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسّاسَةُ. قَالُوا: وَمَا الْجَسّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَىَ هَذَا الرّجُلِ فِي الدّيْرِ. فَإِنّهُ إِلَىَ خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ. قَالَ: لَمّا سَمّتْ لَنَا رَجُلاً فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً.
قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعاً. حَتّىَ دَخَلْنَا الدّيْرَ. فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطّ خَلْقاً. وَأَشَدّهُ وِثَاقاً. مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَىَ عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَىَ كَعْبَيْهِ، بِالْحَدِيدِ. قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَىَ خَبَرِي. فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ. رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيّةٍ. فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ. فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْراً. ثُمّ أَرْفَأْنَا إِلَىَ جَزِيرَتِكَ هَذِهِ. فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا. فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ. فَلَقِيَتْنَا دَابّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشّعَرِ. لاَ يُدْرَىَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشّعَرِ. فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسّاسَةُ. قُلْنَا: وَمَا الْجَسّاسَةُ؟ قَالَتِ: اعْمِدُوا إِلَىَ هَذَا الرّجُلِ فِي الدّيْرِ. فَإِنّهُ إِلَىَ خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ. فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعاً. وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً.
فقالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ. قُلْنَا: عَنْ أَيّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا، هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنّهُ يُوشِكُ أَنْ لاَ تُثْمِرَ. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطّبَرِيّةِ. قُلْنَا: عَنْ أَيّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ المَاءِ. قَالَ: أَمَا إِنّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ. قَالُوا: عَنْ أَيّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِر؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ. هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيّ الأُمّيّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَىَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ. قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ.
قَالَ: أَمَا إِنّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ. وَإِنّي مُخْبِرُكُمْ عَنّي. إِنّي أَنَا الْمَسِيحُ. وَإِنّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ. فَأَخْرُجُ فَأَسِيرُ فِي الأَرْضِ فَلاَ أَدَعُ قَرْيَةً إِلاّ هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. غَيْرَ مَكّةَ وَطَيْبَةَ. فَهُمَا مُحَرّمَتَانِ عَلَيّ. كِلْتَاهُمَا. كُلّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً، أَوْ وَاحِداً مِنْهُمَا، اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السّيْفُ صَلْتاً. يَصُدّنِي عَنْهَا. وَإِنّ عَلَىَ كُلّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلاَئِكَةً يَحْرُسُونَهَا.
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ “هَذِهِ طَيْبَةُ. هَذِهِ طَيْبَةُ. هَذِهِ طَيْبَةُ” يَعْنِي الْمَدِينَةَ “أَلاَ هَلْ كُنْتُ حَدّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟” فَقَالَ النّاسُ: نَعَمْ. “فَإِنّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنّهُ وَافَقَ الّذِي كُنْتُ أُحَدّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكّةَ. أَلاَ إِنّهُ فِي بَحْرِ الشّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ. لاَ بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُومِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ” وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَىَ الْمَشْرِقِ.

ولتعلموا يرحمكم الله أن الجسّاسة سميت بهذا الاسم لأنها تجس الأخبار للدجال، وعليه فهناك مخلوقات غريبة في كل الأرض فلا تعجبوا رفقتي من هذا المخلوق الضخم.

وما كاد الرجل يكمل حديثه حتى أقبل عليهم ذاك الشخص الهائل الصورة و أخذ يحدق بالسجناء ثم أخرج أحدهم وأمسكه كما يقبض الجزار على ذبيحته وأخذه نحو القدور ولم يروا بعدها سوى العملاق وهو يرمي العظام جانبا ثم انطرح أرضا ونام ولما تأكدوا من نومه عادوا لحديثهم والتفكير بحيلة للخلاص من آكل لحوم البشر هذا.

أمضوا الليل بطوله في التفكير ثم اهتدوا إلى خطة وهي أنهم سيحدثون فوضى وجلبة ويتظاهرون بالشجار وما إن يفتح العملاق القفص سيتسلل السندباد خفية ويختبئ وينتظر الفرصة المناسبة عندما ينام العملاق ثانية ليأخذ المفتاح ويفتح باب القفص ويهربوا جميعا ويختبئوا في مكان بعيد عن هذا القصر المشؤوم.

في الصباح الباكر بدأ السندباد ورفاقه في تنفيذ الخطة التي رسموها وبالفعل نجحت بيد أن العملاق أخذ رجلا آخر لغذائه ثم نام نوما عميقا فسارع السندباد لفتح باب القفص وهرب الجميع بعيدا عن القصر واجتهدوا في البحث عن مكان للاختباء حتى وجدوا مغارة فسارعوا إليها واتفقوا على أن لا يحدثوا ضجة أو حركة حتى لا يعثر عليهم العملاق وما هي إلا لحظات حتى بدأت الأرض تهتز فأدركوا أنه بالجوار يبحث عنهم ولكن الظلام حل فرحل العملاق وخرجوا يبحثون عن طعام ووجدوا بعض الثمار فجمعوا ما استطاعوا وعادوا للمغارة.

فقال الربان:” علينا إيجاد سفينتنا” فقال أحد الرجال:” لا أظن أن القرود ستتركها، لذا علينا صنع فلك جديد لنا ونرحل هذه الجزيرة الموحشة، وأعلموا أني نجار وأستطيع مساعدتكم لذا كلما تعاونا أكثر سنكون أسرع.”

وما هي إلا أيام قلائل حتى جمعوا الكثير من الأخشاب وبدؤوا بالعمل وكانوا كلما أحسوا بالأرض ترتج اختبأوا في المغارة لحين رحيل العملاق، إلى أن أنهوا صنع الفلك وحملوا بعض الثمار ورحلوا فرآهم العملاق من بعيد وهم يبحرون فصار يأخذ الصخور ويقذفهم بها فأصاب البعض فهلكوا، أما البقية فقد أخذوا يجدفون بقوة حتى تواروا عن نظر العملاق ووصلوا إلى جزيرة نائية فمشوا إلى آخر النهار ولما أقبل الليل ناموا قليلا ولكنهم استيقظوا فزعين، إذ بثعبان عظيم واسع الجوف قد أحاط بهم  وقصد واحداً فابتلعه ثم مضى فأدرك الباقون أن كل موتة يواجهونها أشنع من سابقتها، فكيف تكون نجاتهم وقد هلك معظمهم؟.

ثم قاموا ومشوا في الجزيرة وأكلوا من ثمرها وشربوا من أنهارها إلى وقت المساء فوجدوا صخرة عالية فصعدوا عليها وناموا فوقها، ولما دخل الليل وأظلم جاء الثعبان وتلفت يميناً وشمالاً وبعدها قصد تلك الصخرة وزحف عليها حتى وصل إلى الرجال فابتلع أحدهم ورحل فلم يتبق إلا أربعة رجال والسندباد. ما لما طلع النهار وبان النور نزلوا جميعا وصاروا يبحثون عن فلكهم ليصلحوها ويرحلوا، فسعدوا بإيجادها وبدؤوا عملهم لكن الثعبان كان يأتي كل ليلة ويلتهم أحدهم ولم يتبق إلا السندباد ففكر في حيلة، ربط خشبة عريضة على قدميه بالعرض وربط واحدة مثلها على جنبه الشمال ومثلها على جنبه اليمين ومثلها على بطنه وربط واحدة طويلة عريضة من فوق رأسه وصار هو وسط هذا الخشب محتاط به من كل جانب وقد شد ذلك شداً وثيقاً وألقى نفسه على الأرض فصار نائماً بين تلك الأخشاب وهي محيطة به كالمقصورة.

فلما أمسى الليل أقبل الثعبان على جري عادته ونظر إليه وقصده فلم يقدر أن يبلغه وهو على تلك الحالة والأخشاب حوله من كل جانب فدار الثعبان حوله فلم يستطع الوصول إليه والسندباد ينظر بعينيه كالميت من شدة الخوف والفزع وصار الثعبان يبعد ويعود ولم يزل على هذه الحالة وكلما أراد الوصول إليه ليبتلعه تمنعه تلك الأخشاب وبقي من غروب الشمس إلى أن طلع الفجر وبان النور وأشرقت الشمس فمضى الثعبان إلى حال سبيله يائسا وهو في غاية من القهر والغيظ.

فعند ذلك مد السندباد يديه وفك نفسه ثم قام ومشى في الجزيرة حتى انتهى إلى آخرها ونظر ناحية البحر فرأى مركباً على بعد في وسط اللجة فأخذ فرعاً كبيراً من شجرة ولوح وهو يصيح بأعلى صوته، فلما رآه البحارة قالوا:” لابد أن نذهب ننظر ما يكون هذا، لعله إنسان بحاجة لمساعدة”

اقترب المركب من الجزيرة فأسرع إليه السندباد وسلم على راكبيه فحملوه معهم وسألوه عن حاله، فأخبرهم عن كل ما جرى له وما واجهه من صعاب و ما قاساه من الشدائد فتعجبوا من ذلك ثم إنهم أعطوه ثيابا وقدموا له طعاما وسقوه ماء عذبا فانتعش قلبه وارتاحت نفسه وحمد الله تعالى على نعمه الوافرة ثم شكر ريس المركب ومن معه.

ظل المركب سائرا حتى وصل لجزيرة تسمى جزيرة السلاهطة وأعلن الربان أنهم سينزلون بها وقال للسندباد:” لقد كان معنا رجل مسافر فقدناه ولم نعلم هل هو حي أم ميت ولم نسمع عنه خبراً ومرادي أن أدفع لك حمولة لتبيعها في هذه الجزيرة وتحفظها وأعطيك شيئاً في نظير تعبك وخدمتك وما بقي منها نأخذه إلى أن نمر بمدينة بغداد فنسأل عن أهله وندفع إليهم بقيتها وثمن ما بيع منها فهل لك أن تتسلمها وتنزل بها على هذه الجزيرة فتبيعها مثل التجار؟” قال السندباد:” يسرني ذلك ولن أنسى صنيعك معي ما حييت “.

بدأ رجال البحرية بإخراج البضائع إلى الجزيرة وبدأ كاتب المركب في جردها حتى وصل لبضائع بلا اسم فسأل الريس:” ما هذه الحمول التي أخرجها البحرية والحمالون، باسم من التجار أكتبها؟”، فقال:” اكتب عليها اسم السندباد البحري الذي كان معنا وفقدناه في الجزيرة ولم يأتنا عنه خبر فنريد أن يبيعها هذا الغريب ونحمل ثمنها ونعطيه شيئاً منه نظير تعبه وبيعه والباقي نحمله معنا حتى نصل إلى مدينة بغداد فإن وجدناه أعطيناه إياه وإن لم نجده ندفعه إلى أهله”.

لما سمع السندباد كلام الربان تقدم إليه وسأله:”هل تعرف كيف كان صاحب الحمولة التي سلمتها إلي لأبيعها” فقال:” لا أعلم له حالاً ولكنه كان رجلاً من مدينة بغداد يقال له السندباد البحري وقد أرسينا على جزيرة من الجزائر ففقدناه هناك ولم نعلم له خبراً إلى هذا الوقت” .

عندئذ صرخ السندباد قائلا:” يا ريس السلامة اعلم أني أنا السندباد البحري لم أغرق ولكن لما أرسيت على الجزيرة وطلع التجار والركاب طلعت أنا مع جملة الناس ومعي شيء آكله بجانب الجزيرة ثم إني تلذذت بالجلوس في ذلك المكان فأخذتني سنة من النوم فنمت ولما قمت لم أجد المركب ولم أجد أحداً عندي وهذا المال مالي وهذه البضائع بضائعي وجميع التجار الذين يجلبون حجر الألماس رأوني وأنا في جبل الألماس ويشهدون لي بأني أنا السندباد البحري كما أخبرتهم بقصتي وما جرى لي معكم في المركب وأخبرتهم بأنكم نسيتموني في الجزيرة نائماً وقمت فلم أجد أحداً وجرى لي ما جرى”.

لما سمع التجار والركاب كلام السندباد اجتمعوا حوله فمنهم من صدق ومنهم من كذب الخبر فبينما هم  كذلك وإذا بتاجر من التجار نهض وتقدم إليه وقال:” اسمعوا يا جماعة كلامي إني لما كنت ذكرت لكم أعجب ما رأيت في أسفاري لما ألقينا الذبائح في وادي الألماس وألقيت ذبيحتي معهم على جري عادتي طلع على ذبيحتي رجل متعلق بها ولم تصدقوني بل كذبتموني”، فقالوا له:” نعم حكيت لنا هذا الأمر ولم نصدقك”، فقال لهم التاجر هذا الذي تعلق في ذبيحتي وقد أعطاني شيئا من حجر الألماس الغالي الثمن الذي لا يوجد نظيره وعوضني أكثر مما كان يطلع لي في ذبيحتي وقد اصطحبته معي لمدينتي وعلمنا الكثير ثم رحل إلى بلاده، واعلموا أن هذا الرجل ما جاءنا هنا إلا لتصدقوا كلامي مما قلته لكم وهذه البضائع كلها رزقه فإنه أخبر بها في وقت اجتماعه علينا وقد ظهر صدقه في قوله”

لما سمع ربان المركب كلام ذلك التاجر قام على حيله وجاء عند السندباد وحقق فيه النظر ساعة وقال:” لقد مرت سنوات وتغيرت ملامحك ولكن ما علامة بضائعك”.

فأخبره السندباد عن علامة كل بضائعه فعانقه الربان وسلم عليه وهنأه بالسلامة وقال:” إن قصتك عجيبة وأمرك غريب ولكن الحمد لله الذي جمع بيننا وبينك ورد بضائعك ومالك عليك بعد كل هذه المدة.”

عند ذلك تصرف السندباد في بضائعه بمعرفته وربح الكثير من تجارته وبقي مسافرا من مكان لآخر إلى أن وصل إلى البصرة وأقام فيها أياماً قلائل، وبعد ذلك دخل إلى مدينة بغداد وقصد حارته ودخل بيته

ففرح به أهله وجاء إليه أصحابه وأحبابه وسعدوا بعودته بالسلامة فأقام لهم وليمة كبيرة ولم ينس كعادته الهدايا والهبات والصدقات للمعوزين فضلا عن كسوة الأرامل والأيتام.

إغلاق